المعبّر عنه مجازا بالكفر ، أو في بلوغهم أقصى درجات الكفر ، وهو الكفر الّذي انضمّ إليه الجور وتبديل الأحكام.
واعلم أنّ المراد بالصّلة هنا أو بفعل الشرط إذ وقعا منفيين هو الاتّصاف بنقيضهما ، أي ومن حكم بغير ما أنزل الله. وهذا تأويل ثالث في الآية ، لأنّ الّذي لم يحكم بما أنزل الله ولا حكم بغيره ، بأنّ ترك الحكم بين النّاس ، أو دعا إلى الصلح ، لا تختلف الأمّة في أنّه ليس بكافر ولا آثم ، وإلّا للزم كفر كلّ حاكم في حال عدم مباشرته للحكم ، وكفر كلّ من ليس بحاكم. فالمعنى : ومن حكم فلم يحكم بما أنزل الله.
(وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٤٥))
عطفت جملة (كَتَبْنا) على جملة (أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ) [المائدة : ٤٤]. ومناسبة عطف هذا الحكم على ما تقدّم أنّهم غيّروا أحكام القصاص كما غيّروا أحكام حدّ الزّنى ، ففاضلوا بين القتلى والجرحى ، كما سيأتي ، فلذلك ذيّله بقوله : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ، كما ذيّل الآية الدّالّة على تغيير حكم حد الزّنى بقوله : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) [المائدة : ٤٤].
والكتب هنا مجاز في التّشريع والفرض بقرينة تعديته بحرف (على) ، أي أوجبنا عليهم فيها ، أي في التّوراة مضمون (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) ، وهذا الحكم مسطور في التّوراة أيضا ، كما اقتضت تعدية فعل (كَتَبْنا) بحرف (في) فهو من استعمال اللّفظ في حقيقته ، ومجازه.
وفي هذا إشارة إلى أنّ هذا الحكم لا يستطاع جحده لأنّه مكتوب والكتابة تزيد الكلام توثّقا ، كما تقدّم عند قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) في سورة البقرة [٢٨٢] ، وقال الحارث بن حلّزة :
وهل ينقض ما في المهارق الأهواء
والمكتوب عليهم هو المصدر المستفاد من (أنّ). والمصدر في مثل هذا يؤخذ من معنى حرف الباء الّذي هو التّعويض ، أي كتبنا تعويض النّفس بالنّفس ، أي النّفس المقتولة