بِالْعُقُودِ) فتأويله أنّ مجموع الكلام تفصيل لا خصوص جملة (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) ؛ فإنّ إباحة الأنعام ليست عقدا يجب الوفاء به إلّا باعتبار ما بعده من قوله : «إلّا ما يتلى عليكم». وباعتبار إبطال ما حرّم أهل الجاهلية باطلا ممّا شمله قوله تعالى : (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ) [المائدة : ١٠٣] الآيات.
والقول عندي أنّ جملة (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) تمهيد لما سيرد بعدها من المنهيات : كقوله : (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) وقوله : (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى) [المائدة : ٢] التي هي من عقود شريعة الإسلام فكان الابتداء بذكر بعض المباح امتنانا وتأنيسا للمسلمين ، ليتلقّوا التكاليف بنفوس مطمئنّة ؛ فالمعنى : إن حرّمنا عليكم أشياء فقد أبحنا لكم أكثر منها ، وإن ألزمناكم أشياء فقد جعلناكم في سعة من أشياء أوفر منها ، ليعلموا أنّ الله ما يريد منهم إلّا صلاحهم واستقامتهم. فجملة (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) مستأنفة استئنافا ابتدائيا لأنّها تصدير للكلام بعد عنوانه.
والبهيمة : الحيوان البرّي من ذوي الأربع إنسيّها ووحشيّها ، عدا السباع ، فتشمل بقر الوحش والظباء. وإضافة بهيمة إلى الأنعام من إضافة العامّ للخاصّ ، وهي بيانية كقولهم : ذباب النحل ومدينة بغداد. فالمراد الأنعام خاصّة ، لأنّها غالب طعام الناس ، وأمّا الوحش فداخل في قوله : (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) ، وهي هنا لدفع توهّم أن يراد من الأنعام خصوص الإبل لغلبة إطلاق اسم الأنعام عليها ، فذكرت (بهيمة) لشمول أصناف الأنعام الأربعة : الإبل ، والبقر ، والغنم ، والمعز.
والإضافة البيانيّة على معنى (من) التي للبيان ، كقوله تعالى : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) [الحج : ٣٠].
والاستثناء في قوله : (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) من عموم الذوات والأحوال ، وما يتلى هو ما سيفصّل عند قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) [المائدة : ٣] ، وكذلك قوله : (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) ، الواقع حالا من ضمير الخطاب في قوله : (أُحِلَّتْ لَكُمْ) ، وهو حال مقيّد معنى الاستثناء من عموم أحوال وأمكنة ، لأنّ الحرم جمع حرام مثل رداح على ردح. وسيأتي تفصيل هذا الوصف عند قوله تعالى : (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ) في هذه السورة [٩٧].
والحرام وصف لمن أحرم بحجّ أو عمرة ، أي نواهما. ووصف أيضا لمن كان حالا في الحرم ، ومن إطلاق المحرم على الحالّ بالحرم قول الراعي :