شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٤٨))
جالت الآيات المتقدّمة جولة في ذكر إنزال التّوراة والإنجيل وآبت منها إلى المقصود وهو إنزال القرآن ؛ فكان كردّ العجز على الصّدر لقوله : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) [المائدة : ٤١] ليبيّن أنّ القرآن جاء نسخا لما قبله ، وأنّ مؤاخذة اليهود على ترك العمل بالتّوراة والإنجيل مؤاخذة لهم بعملهم قبل مجيء الإسلام ، وليعلمهم أنّهم لا يطمعون من محمّد صلىاللهعليهوسلم بأن يحكم بينهم بغير ما شرعه الله في الإسلام ، فوقع قوله : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) إتماما لترتيب نزول الكتب السماويّة ، وتمهيدا لقوله : (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ). ووقع قوله : (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) موقع التّخلّص المقصود ، فجاءت الآيات كلّها منتظمة متناسقة على أبدع وجه.
والكتاب الأوّل القرآن ، فتعريفه للعهد. والكتاب الثّاني جنس يشمل الكتب المتقدّمة ، فتعريفه للجنس. والمصدّق تقدّم بيانه.
والمهيمن الأظهر أنّ هاءه أصلية وأنّ فعله بوزن فيعل كسيطر ، ولكن لم يسمع له فعل مجرّد فلم يسمع همن.
قال أهل اللّغة لا نظير لهذا الفعل إلّا هينم إذا دعا أو قرأ ، وبيقر إذا خرج من الحجاز إلى الشّام ، وسيطر إذا قهر. وليس له نظير في وزن مفيعل إلّا اسم فاعل هذه الأفعال ، وزادوا مبيطر اسم طبيب الدّواب ، ولم يسمع بيطر ولكن بطر ، ومجيمر اسم جبل ، ذكره امرؤ القيس في قوله :
كأنّ ذرى رأس المجيمر غدوة |
|
من السيل والغثاء فلكة مغزل |
وفسّر المهيمن بالعالي والرقيب ، ومن أسمائه تعالى المهيمن.
وقيل : المهيمن مشتقّ من أمن ، وأصله اسم فاعل من آمنه عليه بمعنى استحفظه به ، فهو مجاز في لازم المعنى وهو الرقابة ، فأصله مؤأمن ، فكأنّهم راموا أن يفرّقوا بينه وبين اسم الفاعل من آمن بمعنى اعتقد وبمعنى آمنه ، لأنّ هذا المعنى المجازي صار حقيقة مستقلّة فقلبوا الهمزة الثّانية ياء وقلبوا الهمزة الأولى هاء ، كما قالوا في أراق هراق ، فقالوا : هيمن.
وقد أشارت الآية إلى حالتي القرآن بالنّسبة لما قبله من الكتب ، فهو مؤيّد لبعض ما