ومعنى (لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) هو ما أشرنا إليه من خلق الاستعداد ونحوه. والبلاء:الخبرة. والمراد هنا ليظهر أثر ذلك للنّاس ، والمراد لازم المعنى على طريق الكناية ، كقول إياس بن قبيصة الطائي :
وأقبلت والخطي يخطر بيننا |
|
لأعلم من جبانها من شجاعها |
لم يرد لأعلم فقط ولكن أراد ليظهر لي وللنّاس. ومعناه أنّ الله وكل اختيار طرق الخير وأضدادها إلى عقول النّاس وكسبهم حكمة منه تعالى ليتسابق النّاس إلى إعمال مواهبهم العقليّة فتظهر آثار العلم ويزداد أهل العلم علما وتقام الأدلّة على الاعتقاد الصّحيح. وكلّ ذلك يظهر ما أودعه الله في جبلّة البشر من الصلاحيّة للخير والإرشاد على حسب الاستعداد ، وذلك من الاختبار. ولذلك قال (لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) ، أي في جميع ما آتاكم من العقل والنّظر. فيظهر التّفاضل بين أفراد نوع الإنسان حتّى يبلغ بعضها درجات عالية ، ومن الشرائع الّتي آتاكموها فيظهر مقدار عملكم بها فيحصل الجزاء بمقدار العمل.
وفرّع على (لِيَبْلُوَكُمْ) قوله : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) لأنّ بذلك الاستباق يكون ظهور أثر التّوفيق أوضح وأجلى.
والاستباق : التسابق ، وهو هنا مجاز في المنافسة ، لأنّ الفاعل للخير لا يمنع غيره من أن يفعل مثل فعله أو أكثر ، فشابه التّسابق. ولتضمين فعل استبقوا بمعنى خذوا ، أو ابتدروا ، عدّي الفعل إلى (الْخَيْراتِ) بنفسه وحقّه أن يعدّى بإلى ، كقوله (سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) [الحديد : ٢١]. وقوله : (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) أي من الاختلاف في قبول الدّين.
(وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (٤٩))
يجوز أن يكون قوله (وَأَنِ احْكُمْ) معطوفا عطف جملة على جملة ، بأن يجعل معطوفا على جملة (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) [المائدة : ٤٨] ، فيكون رجوعا إلى ذلك الأمر لتأكيده ، وليبنى عليه قوله : (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ) كما بني على نظيره قوله : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) [المائدة : ٤٨]