مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٥٤))
تقضّى تحذيرهم من أعدائهم في الدّين ، وتجنيبهم أسباب الضعف فيه ، فأقبل على تنبيههم إلى أنّ ذلك حرص على صلاحهم في ملازمة الدّين والذبّ عنه ، وأنّ الله لا يناله نفع من ذلك ، وأنّهم لو ارتدّ منهم فريق أو نفر لم يضرّ الله شيئا ، وسيكون لهذا الدّين أتباع وأنصار وإن صدّ عنه من صدّ ، وهذا كقوله تعالى : (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) [الزمر : ٧] ، وقوله : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [الحجرات : ١٧].
فجملة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ) إلخ معترضة بين ما قبلها وبين جملة (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ) [المائدة : ٥٥] ، دعت لاعتراضها مناسبة الإنذار في قوله (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) [المائدة : ٥١]. فتعقيبها بهذا الاعتراض إشارة إلى أنّ اتّخاذ اليهود والنّصارى أولياء ذريعة للارتداد ، لأنّ استمرار فريق على موالاة اليهود والنّصارى من المنافقين وضعفاء الإيمان يخشى منه أن ينسلّ عن الإيمان فريق. وأنبأ المتردّدين ضعفاء الإيمان بأنّ الإسلام غنيّ عنهم إن عزموا على الارتداد إلى الكفر.
وقرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو جعفر (مَنْ يَرْتَدِدْ) ـ بدالين ـ على فكّ الإدغام ، وهو أحد وجهين في مثله ، وهو لغة أهل الحجاز ، وكذلك هو مرسوم في مصحف المدينة ومصحف الشام. وقرأ الباقون ـ بدال واحدة مشدّدة بالإدغام ـ ، وهو لغة تميم. ـ وبفتح على الدال ـ فتحة تخلّص من التقاء الساكنين لخفّة الفتح ، وكذلك هو مرسوم في مصحف مكّة ومصحف الكوفة ومصحف البصرة.
والارتداد مطاوع الردّ ، والردّ هو الإرجاع إلى مكان أو حالة ، قال تعالى : (رُدُّوها عَلَيَ) [ص : ٣٣]. وقد يطلق الردّ بمعنى التّصيير (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) [النحل : ٧٠]. وقد لوحظ في إطلاق اسم الارتداد على الكفر بعد الإسلام ما كانوا عليه قبل الإسلام من الشرك وغيره ، ثم غلب اسم الارتداد على الخروج من الإسلام ولو لم يسبق للمرتدّ عنه اتّخاذ دين قبله.
وجملة (فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ) إلخ جواب الشرط ، وقد حذف منها العائد على الشرط الاسمي ، وهو وعد بأنّ هذا الدّين لا يعدم أتباعا بررة مخلصين. ومعنى هذا الوعد إظهار الاستغناء عن الّذين في قلوبهم مرض وعن المنافقين وقلّة الاكتراث بهم ، كقوله