وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٦٧))
إنّ موضع هذه الآية في هذه السورة معضل ، فإنّ سورة المائدة من آخر السور نزولا إن لم تكن آخرها نزولا ، وقد بلّغ رسول الله صلىاللهعليهوسلم الشريعة وجميع ما أنزل إليه إلى يوم نزولها ، فلو أنّ هذه الآية نزلت في أوّل مدّة البعثة لقلنا هي تثبيت للرسول وتخفيف لأعباء الوحي عنه ، كما أنزل قوله تعالى : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) [الحجرات : ٩٤ ، ٩٥] وقوله : (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً ـ إلى قوله ـ وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) [المزمل : ٥ ـ ١٠] الآيات ، فأمّا وهذه السورة من آخر السور نزولا وقد أدّى رسول الله الرسالة وأكمل الدّين فليس في الحال ما يقتضي أن يؤمر بتبليغ ، فنحن إذن بين احتمالين :
أحدهما : أن تكون هذه الآية نزلت بسبب خاصّ اقتضى إعادة تثبيت الرسول على تبليغ شيء ممّا يثقل عليه تبليغه.
وثانيهما : أن تكون هذه الآية نزلت من قبل نزول هذه السورة ، وهو الّذي تواطأت عليه أخبار في سبب نزولها.
فأمّا هذا الاحتمال الثّاني فلا ينبغي اعتباره لاقتضائه أن تكون هذه الآية بقيت سنين غير ملحقة بسورة ، ولا جائز أن تكون مقروءة بمفردها ، وبذلك تندحض جميع الأخبار الواردة في أسباب النزول الّتي تذكر حوادث كلّها حصلت في أزمان قبل زمن نزول هذه السورة. وقد ذكر الفخر عشرة أقوال في ذلك ، وذكر الطبري خبرين آخرين ، فصارت اثني عشر قولا.
وقال الفخر بعد أن ذكر عشرة الأقوال : إنّ هذه الروايات وإن كثرت فإنّ الأولى حمل الآية على أنّ الله آمنه مكر اليهود والنّصارى ، لأنّ ما قبلها وما بعدها كان كلاما مع اليهود والنّصارى فامتنع إلقاء هذه الآية الواحدة في البين فتكون أجنبية عمّا قبلها وما بعدها اه. وأمّا ما ورد في الصّحيح أنّ رسول الله كان يحرس حتّى نزل (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) فلا يدلّ على أنّ جميع هذه الآية نزلت يومئذ ، بل اقتصر الراوي على جزء منها ، وهو قوله: (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) فلعلّ الّذي حدّثت به عائشة أنّ الله أخبر رسوله بأنّه عصمه من النّاس فلمّا حكاه الراوي حكاه باللّفظ الواقع في هذه الآية.
فتعيّن التعويل على الاحتمال الأوّل : فإمّا أن يكون سبب نزولها قضية ممّا جرى