فاء الفصيحة على أنّهم ما بلغوا إلّا من جرّاء الحسد للرسول فحقيق أن لا يحزن لهم. والأسى الحزن والأسف ، وفعله كفرح.
وذكر لفظ (الْقَوْمِ) وأتبع بوصف (الْكافِرِينَ) ليدلّ على أنّ المراد بالكافرين هم الّذين صار الكفر لهم سجيّة وصفة تتقوّم بها قوميتهم. ولو لم يذكر القوم وقال : (فلا تأس على الكافرين) لكان بمنزلة اللّقب لهم فلا يشعر بالتّوصيف ، فكان صادقا بمن كان الكفر غير راسخ فيه بل هو في حيرة وتردّد ، فذلك مرجوّ إيمانه.
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٩))
موقع هذه الآية دقيق ، ومعناها أدقّ ، وإعرابها تابع لدقّة الأمرين. فموقعها أدقّ من موقع نظيرتها المتقدّمة في سورة البقرة [٦٢] ، فلم يكن ما تقدّم من البيان في نظيرتها بمغن عن بيان ما يختصّ بموقع هذه. ومعناها يزيد دقّة على معنى نظيرتها تبعا لدقّة موقع هذه. وإعرابها يتعقّد إشكاله بوقوع قوله : (وَالصَّابِئُونَ) بحالة رفع بالواو في حين أنّه معطوف على اسم (إِنَ) في ظاهر الكلام.
فحقّ علينا أن نخصّها من البيان بما لم يسبق لنا مثله في نظيرتها ولنبدأ بموقعها فإنّه معقد معناها :
فاعلم أنّ هذه الجملة يجوز أن تكون استئنافا بيانيا ناشئا على تقدير سؤال يخطر في نفس السامع لقوله : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) [المائدة : ٦٨] فيسأل سائل عن حال من انقرضوا من أهل الكتاب قبل مجيء الإسلام : هل هم على شيء أو ليسوا على شيء ، وهل نفعهم اتّباع دينهم أيّامئذ ؛ فوقع قوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا) الآية جوابا لهذا السؤال المقدّر. والمراد بالّذين آمنوا المؤمنون بالله وبمحمّد صلىاللهعليهوسلم أي المسلمون. وإنّما المقصود من الإخبار الّذين هادوا والصابون والنّصارى ، وأمّا التعرّض لذكر الّذين آمنوا فلاهتمام بهم سنبيّنه قريبا.
ويجوز أن تكون هذه الجملة مؤكّدة لجملة (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا) [المائدة : ٦٥] إلخ ، فبعد أن أتبعت تلك الجملة بما أتبعت به من الجمل عاد الكلام بما يفيد معنى تلك الجملة تأكيدا للوعد ، ووصلا لربط الكلام ، وليلحق بأهل الكتاب الصابئون ، وليظهر الاهتمام بذكر حال المسلمين في جنّات النّعيم.