عطف الجمل لا عطف المفردات ، فيقدّر السامع خبرا يقدّره بحسب سياق الكلام. ومن ذلك قوله تعالى : (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) [التوبة : ٣] ، أي ورسوله كذلك ، فإنّ براءته منهم في حال كونه من ذي نسبهم وصهرهم أمر كالغريب ليظهر منه أنّ آصرة الدّين أعظم من جميع تلك الأواصر ، وكذلك هذا المعطوف هنا لمّا كان الصابون أبعد عن الهدى من اليهود والنّصارى في حال الجاهلية قبل مجيء الإسلام ، لأنّهم التزموا عبادة الكواكب ، وكانوا مع ذلك تحقّ لهم النّجاة إن آمنوا بالله واليوم الآخر وعملوا صالحا ، كان الإتيان بلفظهم مرفوعا تنبيها على ذلك. لكن كان الجري على الغالب يقتضي أن لا يؤتى بهذا المعطوف مرفوعا إلّا بعد أن تستوفي (إنّ) خبرها ، إنّما كان الغالب في كلام العرب أن يؤتى بالاسم المقصود به هذا الحكم مؤخّرا ، فأمّا تقديمه كما في هذه الآية فقد يتراءى للنّاصر أنّه ينافي المقصد الّذي لأجله خولف حكم إعرابه ، ولكن هذا أيضا استعمال عزيز ، وهو أن يجمع بين مقتضيي حالين ، وهما للدّلالة على غرابة المخبر عنه في هذا الحكم. والتّنبيه على تعجيل الإعلام بهذا الخبر فإنّ الصابئين يكادون ييأسون من هذا الحكم أو ييأس منهم من يسمع الحكم على المسلمين واليهود. فنبّه الكلّ على أنّ عفو الله عظيم لا يضيق عن شمولهم ، فهذا موجب التّقديم مع الرّفع ، ولو لم يقدّم ما حصل ذلك الاعتبار ، كما أنّه لو لم يرفع لصار معطوفا على اسم (إنّ) فلم يكن عطفه عطف جملة. ثمّ عقّب ذلك كلّه بقوله : (وَعَمِلَ صالِحاً) ، وهو المقصود بالذّات من ربط السلامة من الخوف والحزن ، به ، فهو قيد في المذكورين كلّهم من المسلمين وغيرهم ، وأوّل الأعمال الصّالحة تصديق الرّسول والإيمان بالقرآن ، ثم يأتي امتثال الأوامر واجتناب المنهيات كما قال تعالى : (وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ ـ إلى قوله ـ ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) [البلد : ١٢ ـ ١٧].
(لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (٧٠))
استئناف عاد به الكلام على أحوال اليهود وجراءتهم على الله وعلى رسله. وذلك تعريض باليأس من هديهم بما جاء به محمّد صلىاللهعليهوسلم وبأنّ ما قابلوا به دعوته ليس بدعا منهم بل ذلك دأبهم جيلا بعد جيل.
وقد تقدّم الكلام على أخذ الميثاق على اليهود غير مرّة. أولاها في سورة البقرة [٨٣].