فائدة علمهم وحكمتهم واختلط المرعيّ بالهمل والحابل بالنابل ، وقد قال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : «من استرعاه الله رعيّة فغشّها لم يشمّ رائحة الجنّة». فالمشركون من العرب أقرب إلى المعذرة لأنّهم قابلوا الرسول من أوّل وهلة بقولهم : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) [الزخرف : ٢٢] ، وقال قوم شعيب (أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) [هود : ٨٧] ، بخلاف اليهود آمنوا برسلهم ابتداء ثمّ انتقضوا عليهم بالتّكذيب والتّقتيل إذا حملوهم على ما فيه خيرهم ممّا لا يهوونه.
وتقديم المفعول في قوله : (فَرِيقاً كَذَّبُوا) لمجرّد الاهتمام بالتفصيل لأنّ الكلام مسوق مساق التّفصيل لأحوال رسل بني إسرائيل باعتبار ما لاقوه من قومهم ، ولأنّ في تقديم مفعول (يَقْتُلُونَ) رعاية على فاصلة الآي ، فقدّم مفعول (كَذَّبُوا) ليكون المفعولان على وتيرة واحدة. وجيء في قوله : (يَقْتُلُونَ) بصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية لاستحضار تلك الحالة الفظيعة إبلاغا في التعجيب من شناعة فاعليها.
والضّمائر كلّها راجعة إلى بني إسرائيل باعتبار أنّهم أمّة يخلف بعض أجيالها بعضا ، وأنّها رسخت فيها أخلاق متماثلة وعوائد متّبعة بحيث يكون الخلف منهم فيها على ما كان عليه السلف ؛ فلذلك أسندت الأفعال الواقعة في عصور متفاوتة إلى ضمائرهم مع اختلاف الفاعلين ، فإنّ الّذين قتلوا بعض الأنبياء فريق غير الّذين اقتصروا على التكذيب.
(وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٧١))
عطف على قوله : (كَذَّبُوا) [المائدة : ٧٠] و (يَقْتُلُونَ) [المائدة : ٧٠] لبيان فساد اعتقادهم النّاشئ عنه فاسد أعمالهم ، أي فعلوا ما فعلوا من الفظائع عن تعمّد بغرور ، لا عن فلتة أو ثائرة نفس حتّى ينيبوا ويتوبوا. والضّمائر البارزة عائدة مثل الضّمائر المتقدّمة في قوله (كَذَّبُوا) و (يَقْتُلُونَ). وظنّوا أنّ فعلهم لا تلحقهم منه فتنة.
والفتنة مرج أحوال النّاس واضطراب نظامهم من جرّاء أضرار ومصائب متوالية ، وقد تقدّم تحقيقها عند قوله : (إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ) في سورة البقرة [١٠٢]. وهي قد تكون عقابا من الله للنّاس جزاء عن سوء فعلهم أو تمحيصا لصادق إيمانهم لتعلو بذلك درجاتهم (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) [البروج : ١٠] الآية. وسمّى القرآن هاروت وماروت فتنة ، وسمّى النبي صلىاللهعليهوسلم الدجّال فتنة ، وسمّى القرآن مزالّ الشيطان فتنة (لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ)