[الأعراف : ٢٧]. فكان معنى الابتلاء ملازما لها.
والمعنى : وظنّوا أنّ الله لا يصيبهم بفتنة في الدّنيا جزاء على ما عاملوا به أنبياءهم ، فهنالك مجرور مقدّر دالّ عليه السّياق ، أي ظنّوا أن لا تنزل بهم مصائب في الدّنيا فأمنوا عقاب الله في الدّنيا بعد أن استخفّوا بعذاب الآخرة ، وتوهّموا أنّهم ناجون منه ، لأنّهم أبناء الله وأحبّاؤه ، وأنّهم لن تمسّهم النّار إلّا أياما معدودة.
فمن بديع إيجاز القرآن أن أومأ إلى سوء اعتقادهم في جزاء الآخرة وأنّهم نبذوا الفكرة فيه ظهريا وأنّهم لا يراقبون الله في ارتكاب القبائح ، وإلى سوء غفلتهم عن فتنة الدّنيا وأنّهم ضالّون في كلا الأمرين.
ودلّ قوله : (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) على أنّهم لو لم يحسبوا ذلك لارتدعوا ، لأنّهم كانوا أحرص على سلامة الدّنيا منهم على السلامة في الآخرة لانحطاط إيمانهم وضعف يقينهم. وهذا شأن الأمم إذا تطرّق إليها الخذلان أن يفسد اعتقادهم ويختلط إيمانهم ويصير همّهم مقصورا على تدبير عاجلتهم ، فإذا ظنّوا استقامة العاجلة أغمضوا أعينهم عن الآخرة ، فتطلّبوا السلامة من غير أسبابها ، فأضاعوا الفوز الأبدي وتعلّقوا بالفوز العاجل فأساءوا العمل فأصابهم العذابان العاجل بالفتنة والآجل.
واستعير (عَمُوا وَصَمُّوا) للإعراض عن دلائل الرشاد من رسلهم وكتبهم لأنّ العمى والصمم يوقعان في الضلال عن الطريق وانعدام استفادة ما ينفع. فالجمع بين العمى والصمم جمع في الاستعارة بين أصناف حرمان الانتفاع بأفضل نافع ، فإذا حصل الإعراض عن ذلك غلب الهوى على النّفوس ، لأنّ الانسياق إليه في الجبلّة ، فتجنّبه محتاج إلى الوازع ، فإذا انعدم الوازع جاء سوء الفعل ، ولذلك كان قوله : (فَعَمُوا وَصَمُّوا) مرادا منه معناه الكنائي أيضا ، وهو أنّهم أساءوا الأعمال وأفسدوا ، فلذلك استقام أن يعطف عليه قوله (ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ). وقد تأكّد هذا المراد بقوله في تذييل الآية (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ).
وقوله : (ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ) أي بعد ذلك الضّلال والإعراض عن الرّشد وما أعقبه من سوء العمل والفساد في الأرض. وقد استفيد من قوله : (أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) وقوله: (ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ) أنّهم قد أصابتهم الفتنة بعد ذلك العمى والصمم وما نشأ عنها عقوبة لهم ، وأنّ الله لمّا تاب عليهم رفع عنهم الفتنة ، (ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا) ، أي عادوا إلى ضلالهم القديم وعملهم الذّميم ، لأنّهم مصرّون على حسبان أن لا تكون فتنة فأصابتهم فتنة