قصر ادّعاء بمعنى الكمال ، أي ولا يسمع كلّ دعاء ويعلم كلّ احتياج إلّا الله تعالى ، أي لا عيسى ولا غيره ممّا عبد من دون الله.
فالواو في قوله (وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) واو الحال. وفي موقع هذه الجملة تحقيق لإبطال عبادتهم عيسى ومريم من ثلاثة طرق : طريق القصر وطريق ضمير الفصل وطريق جملة الحال باعتبار ما تفيده من مفهوم مخالفه.
(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٧٧))
الخطاب لعموم أهل الكتاب من اليهود والنّصارى ، وتقدّم تفسير نظيره في آخر سورة النّساء. والغلوّ مصدر غلا في الأمر : إذا جاوز حدّه المعروف. فالغلوّ الزّيادة في عمل على المتعارف منه بحسب العقل أو العادة أو الشرع.
وقوله : (غَيْرَ الْحَقِ) منصور على النّيابة عن مفعول مطلق لفعل (تَغْلُوا) أي غلوّا غير الحقّ ، وغير الحقّ هو الباطل. وعدل عن أن يقال باطلا إلى (غَيْرَ الْحَقِ) لما في وصف غير الحقّ من تشنيع الموصوف. والمراد أنّه مخالف للحقّ المعروف فهو مذموم ؛ لأنّ الحقّ محمود فغيره مذموم. وأريد أنّه مخالف للصّواب احترازا عن الغلوّ الّذي لا ضير فيه ، مثل المبالغة في الثّناء على العمل الصّالح من غير تجاوز لما يقتضيه الشرع. وقد أشار إلى هذا قوله تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) في سورة النّساء [١٧١]. فمن غلوّ اليهود تجاوزهم الحدّ في التّمسك بشرع التّوراة بعد رسالة عيسى ومحمد ـ عليهما الصّلاة والسّلام ـ. ومن غلوّ النّصارى دعوى إلهيّة عيسى وتكذيبهم محمدا صلىاللهعليهوسلم. ومن الغلوّ الّذي ليس باطلا ما هو مثل الزّيادة في الوضوء على ثلاث غسلات فإنّه مكروه.
وقوله : (وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ) عطف على النّهي عن الغلوّ ، وهو عطف عامّ من وجه على خاصّ من وجه ؛ ففيه فائدة عطف العامّ على الخاصّ وعطف الخاصّ على العامّ ، وهذا نهي لأهل الكتاب الحاضرين عن متابعة تعاليم الغلاة من أحبارهم ورهبانهم الّذين أساءوا فهم الشريعة عن هوى منهم مخالف للدّليل. فلذلك سمّي تغاليهم أهواء ، لأنّها كذلك في نفس الأمر وإن كان المخاطبون لا يعرفون أنّها أهواء فضلّوا ودعوا إلى ضلالتهم فأضلّوا كثيرا مثل (قيافا) حبر اليهود الّذي كفّر عيسى ـ عليه