والاعتداء ، فقال : (كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ). وذلك أن شأن المناكر أن يبتدئها الواحد أنّ النّفر القليل ، فإذا لم يجدوا من يغيّر عليهم تزايدوا فيها ففشت واتّبع فيها الدّهماء بعضهم بعضا حتّى تعمّ وينسى كونها مناكر فلا يهتدي النّاس إلى الإقلاع عنها والتّوبة منها فتصيبهم لعنة الله. وقد روى التّرمذي وأبو داود من طرق عن عبد الله بن مسعود بألفاظ متقاربة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «كان الرجل من بني إسرائيل يلقى الرجل إذا رآه على الذنب فيقول : يا هذا اتّق الله ودع ما تصنع ، ثمّ يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وخليطه وشريكه ، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ، ثمّ قرأ : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) إلى قوله : (فاسِقُونَ) [المائدة : ٧٨ ـ ٨١] ثمّ قال : والّذي نفسي بيده لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر ولتأخذنّ على يد الظّالم ولتأطرنّه على الحقّ أطرا أو ليضربنّ الله قلوب بعضكم على بعض أو ليلعنكم كما لعنهم».
وأطلق التناهي بصيغة المفاعلة على نهي بعضهم بعضا باعتبار مجموع الأمّة وأنّ ناهي فاعل المنكر منهم هو بصدد أن ينهاه المنهيّ عند ما يرتكب هو منكرا فيحصل بذلك التّناهي. فالمفاعلة مقدّرة وليست حقيقيّة ، والقرينة عموم الضّمير في قوله (فَعَلُوهُ) ، فإنّ المنكر إنّما يفعله بعضهم ويسكت عليه البعض الآخر ؛ وربّما فعل البعض الآخر منكرا آخر وسكت عليه البعض الّذي كان فعل منكرا قبله وهكذا ، فهم يصانعون أنفسهم.
والمراد ب (ما كانُوا يَفْعَلُونَ) تركهم التناهي.
وأطلق على ترك التناهي لفظ الفعل في قوله (لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) مع أنّه ترك ، لأنّ السكوت على المنكر لا يخلو من إظهار الرّضا به والمشاركة فيه.
وفي هذا دليل للقائلين من أئمّة الكلام من الأشاعرة بأنّه لا تكليف إلّا بفعل ، وأنّ المكلّف به في النّهي فعل ، وهو الانتهاء ، أي الكفّ ، والكفّ فعل ، وقد سمّى الله الترك هنا فعلا. وقد أكّد فعل الذّم بإدخال لام القسم عليه للإقصاء في ذمّة.
[٨٠ ، ٨١] (تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (٨٠) وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٨١))
استئناف ابتدائي ذكر به حال طائفة من اليهود كانوا في زمن الرّسول صلىاللهعليهوسلم وأظهروا