فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٨٩))
استئناف ابتدائي نشأ بمناسبة قوله : (لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) [المائدة : ٨٧] لأنّ التحريم يقع في غالب الأحوال بأيمان معزومة ، أو بأيمان تجري على اللسان لقصد تأكيد الكلام ، كأن يقول : والله لا آكل كذا ، أو تجري بسبب غضب. وقيل : إنّها نزلت مع الآية السابقة فلا حاجة لإبداء المناسبة لذكر هذا بعد ما قبله. روى الطبري والواحدي عن ابن عبّاس أنّه لمّا نزل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) [المائدة : ٨٧] ونهاهم النبي صلىاللهعليهوسلم عمّا عزموا عليه من ذلك ، كما تقدّم آنفا ، قالوا : يا رسول الله ، كيف نصنع بأيماننا التي حلفناها عليها ، فأنزل الله تعالى : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) الآية. فشرع الله الكفّارة. وتقدّم القول في نظير صدر هذه الآية في سورة البقرة. وتقدّم الاختلاف في معنى لغو اليمين. وليس في شيء من ذلك ما في سبب نزول آية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) [المائدة : ٨٧] ، ولا في جعل مثل ما عزم عليه الذين نزلت تلك الآية في شأنهم من لغو اليمين. فتأويل ما رواه الطبري والواحدي في سبب نزول هذه الآية أنّ حادثة أولئك الذين حرّموا على أنفسهم بعض الطيّبات ألحقت بحكم لغو اليمين في الرخصة لهم في التحلّل من أيمانهم.
وقوله : (بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ) ، أي ما قصدتم به الحلف. وهو يبيّن مجمل قوله في سورة البقرة [٢٢٥](بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ).
وقرأ الجمهور (عَقَّدْتُمُ) ـ بتشديد القاف ـ. وقرأه حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم ، وخلف ـ بتخفيف القاف ـ. وقرأه ابن ذكوان عن ابن عامر عاقدتم بألف بعد العين من باب المفاعلة. فأمّا (عَقَّدْتُمُ) بالتشديد فيفيد المبالغة في فعل عقد ، وكذلك قراءة عاقدتم لأنّ المفاعلة فيه ليست على بابها ، فالمقصود منها المبالغة ، مثل عافاه الله. وأمّا قراءة التخفيف فلأنّ مادّة العقد كافية في إفادة التثبيت. والمقصود أنّ المؤاخذة تكون على نية التوثّق باليمين ، فالتعبير عن التوثّق بثلاثة أفعال في كلام العرب : عقد المخفّف ، وعقّد المشدّد ، وعاقد.
وقوله : (ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ) إشارة إلى المذكور ، زيادة في الإيضاح. والكفّارة مبالغة في كفر بمعنى ستر وأزال. وأصل الكفر ـ بفتح الكاف ـ الستر. وقد جاءت فيها دلالتان على المبالغة هما التضعيف والتاء الزائدة ، كتاء نسّابة وعلّامة. والعرب يجمعون