وقال الفخر : زعم بعض الجهّال أنّ الله تعالى لمّا جعل الخمر محرّمة عند ما تكون موقعة للعداوة والبغضاء وصادّة عن ذكر الله وعن الصلاة بيّن في هذه الآية أنّه لا جناح على من طعمها إذا لم يحصل معه شيء من تلك المفاسد ، بل حصل معه الطاعة والتقوى والإحسان إلى الخلق ، ولا يمكن حمله على أحوال من شرب الخمر قبل نزول آية التحريم لأنّه لو كان ذلك لقال ما كان جناح على الذين طعموا ، كما ذكر في آية تحويل القبلة ، فقال (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) [البقرة : ١٤٣] ولا شكّ أنّ (إذا) للمستقبل لا للماضي. قال الفخر : وهذا القول مردود بإجماع كلّ الأمّة. وأمّا قولهم (إذا) للمستقبل ، فجوابه أنّ الحلّ للمستقبل عن وقت نزول الآية في حقّ الغائبين.
والتقوى امتثال المأمورات واجتناب المنهيات ، ولذلك فعطف (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) على (اتَّقَوْا) من عطل الخاصّ على العامّ ، للاهتمام به ، كقوله تعالى : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) ، ولأنّ اجتناب المنهيات أسبق تبادرا إلى الأفهام في لفظ التقوى لأنّها مشتقّة من التوقّي والكفّ.
وأمّا عطف (وَآمَنُوا) على (اتَّقَوْا) فهو اعتراض للإشارة إلى أنّ الإيمان هو أصل التقوى ، كقوله تعالى (فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ ـ إلى قوله ـ ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا). والمقصود من هذا الظرف الذي هو كالشرط مجرد التنويه بالتقوى والإيمان والعمل الصالح ، وليس المقصود أنّ نفي الجناح عنهم قيّد بأن يتّقوا ويؤمنوا ويعملوا الصالحات ، للعلم بأنّ لكلّ عمل أثرا على فعله أو على تركه ، وإذ قد كانوا مؤمنين من قبل ، وكان الإيمان عقدا عقليا لا يقبل التجدّد تعيّن أنّ المراد بقوله : (وَآمَنُوا) معنى وداموا على الإيمان ولم ينقضوه بالكفر.
وجملة (ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا) تأكيد لفظي لجملة (إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) وقرن بحرف (ثُمَ) الدالّ على التراخي الرتبي ليكون إيماء إلى الازدياد في التقوى وآثار الإيمان ، كالتأكيد في قوله تعالى : (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) [النبإ : ٤ ، ٥] ولذلك لم يكرّر قوله : (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) لأنّ عمل الصالحات مشمول للتقوى.
وأمّا جملة (ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا) فتفيد تأكيدا لفظيا لجملة (ثُمَّ اتَّقَوْا) وتفيد الارتقاء في التقوى بدلالة حرف (ثُمَ) على التراخي الرتبي. مع زيادة صفة الإحسان. وقد فسّر النبي صلىاللهعليهوسلم الإحسان بقوله : «أن تعبد الله كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك». وهذا يتضمّن الإيمان لا محالة فلذلك استغني عن إعادة (وَآمَنُوا) هنا. ويشمل فعل