إنّ قول الشافعي هو الصحيح ، وهو اختيار علمائنا. ولم أدر من يعنيه من علمائنا فإنّي لا أعرف للمالكية مخالفا لمالك في هذا. والقول في الطير كالقول في الصغير وفي الدوابّ ، وكذلك القول في العظيم من الحيوان كالفيل والزرافة فيرجع إلى الإطعام. ولمّا سمّى الله هذا جزاء وجعله مماثلا للمصيد دلّنا على أنّ من تكرّر منه قتل الصيد وهو محرم وجب عليه جزاء لكلّ دابّة قتلها ، خلافا لداود الظاهري ، فإنّ الشيئين من نوع واحد لا يماثلهما شيء واحد من ذلك النوع ، ولأنه قد تقتل أشياء مختلفة النوع فكيف يكون شيء من نوع مماثلا لجميع ما قتله.
وقرأ جمهور القرّاء (فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ) بإضافة (فَجَزاءٌ) إلى (مِثْلُ) ؛ فيكون (فَجَزاءٌ) مصدرا بدلا عن الفعل ، ويكون (مِثْلُ ما قَتَلَ) فاعل المصدر أضيف إليه مصدره. و (مِنَ النَّعَمِ) بيان المثل لا ل (ما قَتَلَ). والتقدير : فمثل ما قتل من النعم يجزئ جزاء ما قتله ، أي يكافئ ويعوّض ما قتله. وإسناد الجزاء إلى المثل إسناد على طريقة المجاز العقلي. ولك أن تجعل الإضافة بيانية ، أي فجزاء هو مثل ما قتل ، والإضافة تكون لأدنى ملابسة. ونظيره قوله تعالى : (فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا) [سبأ : ٣٧]. وهذا نظم بديع على حدّ قوله تعالى : (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) [النساء : ٩٢] ، أي فليحرّر رقبة. وجعله صاحب «الكشاف» من إضافة المصدر إلى المفعول ، أي فليجز مثل ما قتل. وهو يقتضي أن يكون النعم هو المعوّض لا العوض لأنّ العوض يتعدّى إليه فعل (جزى) بالباء ويتعدّى إلى المعوّض بنفسه. تقول : جزيت ما أتلفته بكذا درهما ، ولا تقول : جزيت كذا درهما بما أتلفته ، فلذلك اضطرّ الذين قدّروا هذا القول إلى جعل لفظ (مثل) مقحما. ونظّروه بقولهم : «مثلك لا يبخل» ، كما قال ابن عطية وهو معاصر للزمخشري. وسكت صاحب «الكشاف» عن الخوض في ذلك وقرّر القطب كلام «الكشاف» على لزوم جعل لفظ (مِثْلُ) مقحما وأنّ الكلام على وجه الكناية ، يعني نظير (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] وكذلك ألزمه إياه التفتازانيّ ، واعتذر عن عدم التصريح به في كلامه بأنّ الزمخشري بصدد بيان الجزاء لا بصدد بيان أنّ عليه جزاء ما قتل. وهو اعتذار ضعيف. فالوجه أن لا حاجة إلى هذا التقدير من أصله. وقد اجترأ الطبري فقال : أن لا وجه لقراءة الإضافة وذلك وهم منه وغفلة من وجوه تصاريف الكلام العربي.
وقرأ عاصم ، وحمزة ، ويعقوب ، والكسائي ، وخلف (فَجَزاءٌ مِثْلُ) بتنوين (جزاء). ورفع (مثل) على تقدير : فالجزاء هو مثل ، على أنّ الجزاء مصدر أطلق على اسم