مفعولين ، وكلا المعنيين صالح هنا. والأظهر الأول فإنّ الله أوجد الكعبة ، أي أمر خليله بإيجادها لتكون قياما للناس. فقوله : (قِياماً) منصوب على الحال ، وهي حال مقدّرة ، أي أوجدها مقدّرا أن تكون قياما. وإذا حمل (جَعَلَ) على معنى التصيير كان المعنى أنّها موجودة بيت عبادة فصيّرها الله قياما للناس لطفا بأهلها ونسلهم ، فيكون (قِياماً) مفعولا ثانيا ل (جَعَلَ). وأمّا قوله : (الْبَيْتَ الْحَرامَ) يصحّ جعله مفعولا.
والكعبة علم على البيت الذي بناه إبراهيم ـ عليهالسلام ـ بمكة بأمر الله تعالى ليكون آية للتوحيد. وقد تقدّم ذلك في تفسير قوله تعالى : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ) في سورة آل عمران [٩٦]. قالوا : إنّه علم مشتقّ من الكعب ، وهو النتوء والبروز ، وذلك محتمل. ويحتمل أنّهم سمّوا كلّ بارز كعبة ، تشبيها بالبيت الحرام ، إذ كان أول بيت عندهم ، وكانوا من قبله أهل خيام ، فصار البيت مثلا يمثّل به كلّ بارز. وأمّا إطلاق الكعبة على (القليس) الذي بناه الحبشة في صنعاء ، وسمّاه بعض العرب الكعبة اليمانية ، وعلى قبة نجران التي أقامها نصارى نجران لعبادتهم التي عناها الأعشى في قوله :
فكعبة نجران حتم عليك |
|
حتى تناخي بأبوابها |
فذلك على وجه المحاكاة والتشبيه ، كما سمّى بنو حنيفة مسليمة رحمان.
وقوله : (الْبَيْتَ الْحَرامَ) بيان للكعبة. قصد من هذا البيان التنويه والتعظيم ، إذ شأن البيان أن يكون موضّحا للمبيّن بأن يكون أشهر من المبيّن. ولمّا كان اسم الكعبة مساويا للبيت الحرام في الدلالة على هذا البيت فقد عبّر به عن الكعبة في قوله تعالى : (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) [المائدة : ٢] فتعيّن أنّ ذكر البيان للتعظيم ، فإنّ البيان يجيء لما يجيء له النعت من توضيح ومدح ونحو ذلك. ووجه دلالة هذا العلم على التعظيم هو ما فيه من لمح معنى الوصف بالحرام قبل التغليب. وذكر البيت هنا لأنّ هذا الموصوف مع هذا الوصف صارا علما بالغلبة على الكعبة.
والحرام في الأصل مصدر حرم إذا منع ، ومصدره الحرام ، كالصلاح من صلح ، فوصف شيء بحرام مبالغة في كونه ممنوعا. ومعنى وصف البيت بالحرام أنّه ممنوع من أيدي الجبابرة فهو محترم عظيم المهابة. وذلك يستتبع تحجير وقوع المظالم والفواحش فيه ، وقد تقدّم أنّه يقال رجل حرام عند قوله تعالى : (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) في هذه السورة [١] ، وأنّه يقال : شهر حرام ، عند قوله تعالى : (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ) [المائدة : ٢] فيها أيضا ، فيحمل هذا الوصف على ما يناسبه بحسب الموصوف الذي يجري عليه ،