الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ) [قريش : ١ ، ٢]. وبذلك كلّه بقيت أمّه العرب محفوظة الجبلّة التي أراد الله أن يكونوا مجبولين عليها ، فتهيّأت بعد ذلك لتلقّي دعوة محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وحملها إلى الأمم ، كما أراد الله تعالى وتمّ بذلك مراده.
وإذا شئت أن تعدو هذا فقل : إنّ الكعبة كانت قياما للناس وهم العرب ، إذ كانت سبب اهتدائهم إلى التوحيد واتّباع الحنيفية ، واستبقت لهم بقية من تلك الحنيفية في مدة جاهليتهم كلّها لم يعدموا عوائد نفعها. فلمّا جاء الإسلام كان الحج إليها من أفضل الأعمال ، وبه تكفّر الذنوب ، فكانت الكعبة من هذا قياما للناس في أمور أخراهم بمقدار ما يتمسّكون به ممّا جعلت الكعبة له قياما.
وعطف (الشَّهْرَ الْحَرامَ) على (الْكَعْبَةَ) شبه عطف الخاصّ على العامّ باعتبار كون الكعبة أريد بها ما يشمل علائقها وتوابعها ، فإنّ الأشهر الحرم ما اكتسبت الحرمة إلّا من حيث هي أشهر الحج والعمرة للكعبة كما علمت. فالتعريف في (الشَّهْرَ) للجنس كما تقدّم في قوله تعالى : (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ) [المائدة : ٢]. ولا وجه لتخصيصه هنا ببعض تلك الأشهر. وكذلك عطف (الْهَدْيَ) و (الْقَلائِدَ). وكون الهدي قياما للناس ظاهر ، لأنّه ينتفع ببيعه للحاج أصحاب المواشي من العرب ، وينتفع بلحومه من الحاج فقراء العرب ، فهو قيام لهم.
وكذلك القلائد فإنّهم ينتفعون بها ؛ فيتّخذون من ظفائرها مادّة عظيمة للغزل والنسج ، فتلك قيام لفقرائهم ، ووجه تخصيصها بالذكر هنا ، وإن كانت هي من أقلّ آثار الحج ، التنبيه على أنّ جميع علائق الكعبة فيها قيام للناس ، حتى أدنى العلائق ، وهو القلائد ، فكيف بما عداها من جلال البدن ونعالها وكسوة الكعبة ، ولأنّ القلائد أيضا لا يخلو عنها هدي من الهدايا بخلاف الجلال والنعال. ونظير هذا قول أبي بكر «والله لو منعوني عقالا» إلخ ...
وقوله : (ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) الآية ، مرتبط بالكلام الذي قبله بواسطة لام التعليل في قوله (لِتَعْلَمُوا). وتوسّط اسم الإشارة بين الكلامين لزيادة الربط مع التنبيه على تعظيم المشار إليه ، وهو الجعل المأخوذ من قوله : (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ) ، فتوسّط اسم الإشارة هنا شبيه بتوسّط ضمير الفصل ، فلذلك كان الكلام شبيها بالمستأنف وما هو بمستأنف ، لأنّ ما صدق اسم الإشارة هو الكلام السابق ، ومفاد لام التعليل الربط بالكلام السابق ، فلم يكن في هذا الكلام شيء جديد غير التعليل،