أنّ القول الذي تحكى به المحاورات لا يلتزم فيه مراعاة صيغته لزمان وقوعه لأنّ زمان الوقوع يكون قد تعيّن بقرينة سياق المحاورة.
وقرأ الجمهور (الْغُيُوبِ) ـ بضم الغين ـ. وقرأ حمزة ، وأبو بكر عن عاصم ـ بكسر الغين ـ وهي لغة لدفع ثقل الانتقال من الضمّة إلى الباء ، كما تقدّم في بيوت في قوله تعالى (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ) من سورة النساء [١٥].
وفصل (قالُوا) جريا على طريقة حكاية المحاورات ، كما تقدّم في قوله (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) في سورة البقرة [٣٠].
وقوله : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) ظرف ، هو بدل من (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) بدل اشتمال ، فإنّ يوم الجمع مشتمل على زمن هذا الخطاب لعيسى ، ولذلك لم تعطف هذه الجملة على التي قبلها. والمقصود من ذكر ما يقال لعيسى يومئذ هو تقريع اليهود. والنصارى الذين ضلّوا في شأن عيسى بين طرفي إفراط بغض وإفراط حبّ.
فقوله (اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ ـ إلى قوله ـ لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) [المائدة : ١١٥] استئناس لعيسى لئلّا يفزعه السؤال الوارد بعده بقوله : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ) إلخ ... [المائدة : ١١٦] وهذا تقريع لليهود ، وما بعدها تقريع للنصارى. والمراد من (اذْكُرْ نِعْمَتِي) الذّكر ـ بضمّ الذال ـ وهو استحضار الأمر في الذهن. والأمر في قوله (اذْكُرْ) للامتنان ، إذ ليس عيسى بناس لنعم الله عليه وعلى والدته. ومن لازمه خزي اليهود الذين زعموا أنّه ساحر مفسد إذ ليس السحر والفساد بنعمة يعدّها الله على عبده. ووجه ذكر والدته هنا الزيادة من تبكيت اليهود وكمدهم لأنّهم تنقّصوها بأقذع ممّا تنقّصوه.
والظرف في قوله (إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ) متعلّق ب (نِعْمَتِي) لما فيها من معنى المصدر ، أي النعمة الحاصلة في ذلك الوقت ، وهو وقت التأييد بروح القدس. وروح القدس هنا جبريل على الأظهر. والتأييد وروح القدس تقدّما في سورة البقرة [٨٧] عند قوله: (وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ).
وجملة (تُكَلِّمُ) حال من الضمير المنصوب ب (أَيَّدْتُكَ) وذلك أنّ الله ألقى الكلام من الملك على لسان عيسى وهو في المهد ، وفي ذلك تأييد له لإثبات نزاهة تكوّنه ، وفي ذلك نعمة عليه ، وعلى والدته إذ ثبتت براءتها ممّا اتّهمت به.
والجارّ والمجرور في قوله (فِي الْمَهْدِ) حال من ضمير (تُكَلِّمُ). و (كَهْلاً)