عيسى ليدعو بني إسرائيل إلى دينه. وخصّ الحواريّون به هنا تنويها بهم حتّى كأنّ الوحي بالدعوة لم يكن إلّا لأجلهم ، لأنّ ذلك حصل لجميع بني إسرائيل فكفر أكثرهم على نحو قوله تعالى : (كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ) [الصف : ١٤] ؛ فكان الحواريّون سابقين إلى الإيمان لم يتردّدوا في صدق عيسى. و (أَنْ) تفسيرية للوحي الذي ألقاه الله في قلوب الحواريّين.
وفصل جملة (قالُوا آمَنَّا) لأنّها جواب ما فيه معنى القول ، وهو «أوحينا» ، على طريقة الفصل في المحاورة كما تقدّم في سورة البقرة ، وهو قول نفسي حصل حين ألقى الله في قلوبهم تصديق عيسى فكأنّه خاطبهم فأجابوه. والخطاب في قولهم : (وَاشْهَدْ) لله تعالى وإنّما قالوا ذلك بكلام نفسي من لغتهم ، فحكى الله معناه بما يؤدّيه قوله : (وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ). وسمّى إيمانهم إسلاما لأنّه كان تصديقا راسخا قد ارتفعوا به عن مرتبة إيمان عامّة من آمن بالمسيح غيرهم ، فكانوا مماثلين لإيمان عيسى ، وهو إيمان الأنبياء والصدّيقين ، وقد قدّمت بيانه في تفسير قوله تعالى : (وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً) في سورة آل عمران [٦٧] ، وفي تفسير قوله (فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) في سورة البقرة [١٣٢] فارجع إليه.
[١١٢ ، ١١٣] (إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١١٢) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (١١٣))
جملة : (إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ) يجوز أن تكون من تمام الكلام الذي يكلّم الله به عيسى يوم يجمع الرسل ، فيكون (إِذْ) ظرفا متعلّقا بفعل (قالُوا آمَنَّا) [المائدة : ١١١] فيكون ممّا يذكر الله به عيسى يوم يجمع الرسل ، فحكي على حسب حصوله في الدنيا وليس ذلك بمقتض أنّ سؤالهم المائدة حصل في أول أوقات إيمانهم بل في وقت آخر (قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ) [المائدة : ١١١] ؛ فإنّ قولهم (آمَنَّا) قد يتكرّر منهم بمناسبات ، كما يكون عند سماعهم تكذيب اليهود عيسى ، أو عند ما يشاهدون آيات على يد عيسى ، أو يقولونه لإعادة استحضار الإيمان شأن الصدّيقين الذين يحاسبون أنفسهم ويصقلون إيمانهم فيقولون في كلّ معاودة. آمنّا واشهد بأنّنا مسلمون. وأمّا ما قرّر به «الكشاف» ومتابعوه فلا يحسن تفسير الكلام به.