والاضطرار : الوقوع في الضرورة ، وفعله غلب عليه البناء للمجهول ، وقد تقدّم بيانه عند قوله تعالى : (ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ) في سورة البقرة [١٢٦].
والمخمصة : المجاعة ، اشتقّت من الخمص وهو ضمور البطن ، لأنّ الجوع يضمر البطون ، وفي الحديث «تغدو خماصا فتروح بطانا».
والتجانف : التمايل ، والجنف : الميل ، قال تعالى : (فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً) [البقرة : ١٨٢] الآية. والمعنى أنّه اضطرّ غير مائل إلى الحرام من أخذ أموال الناس ، أو من مخالفة الدين. وهذه حال قصد بها ضبط حالة الاضطرار في الإقدام والإحجام ، فلا يقدم على أكل المحرّمات إذا كان رائما بذلك تناولها مع ضعف الاحتياج ، ولا يحجم عن تناولها إذا خشي أن يتناول ما في أيدي الناس بالغصب والسرقة ، وهذا بمنزلة قوله : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) [البقرة : ١٧٣] ، أي غير باغ ولا عاد على الناس ولا على أحكام الدين.
ووقع قوله : «فإنّ الله غفور رحيم» مغنيا عن جواب الشرط لأنّه كالعلّة له ، وهي دليل عليه ، والاستغناء بمثله كثير في كلام العرب وفي القرآن. والتقدير : فمن اضطرّ في مخمصة غير متجانف لإثم فله تناول ذلك إنّ الله غفور ، كما قال في الآية نظيرتها (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [البقرة : ١٧٣].
(يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤))
(يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ).
إن كان الناس قد سألوا عمّا أحلّ لهم من المطعومات بعد أن سمعوا ما حرّم عليهم في الآية السابقة ، أو قبل أن يسمعوا ذلك ، وأريد جوابهم عن سؤالهم الآن ، فالمضارع مستعمل للدلالة على تجدّد السؤال ، أي تكرّره أو توقّع تكرّره. وعليه فوجه فصل جملة (يَسْئَلُونَكَ) أنّها استئناف بيانيّ ناشئ عن جملة (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) [المائدة : ٣] وقوله : (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ) [المائدة : ٣] ؛ أو هي استئناف ابتدائي : للانتقال من بيان المحرّمات إلى بيان الحلال بالذات ، وإن كان السؤال لم يقع ، وإنّما قصد به توقّع السؤال ، كأنّه قيل : إن سألوك ، فالإتيان بالمضارع بمعنى الاستقبال لتوقّع أن يسأل الناس