عن ضبط الحلال ، لأنّه ممّا تتوجّه النفوس إلى الإحاطة به ، وإلى معرفة ما عسى أن يكون قد حرّم عليهم من غير ما عدّد لهم في الآيات السابقة ، وقد بيّنّا في مواضع ممّا تقدّم ، منها قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ) في سورة البقرة [١٨٩] : أنّ صيغة (يَسْئَلُونَكَ) في القرآن تحتمل الأمرين. فعلى الوجه الأوّل يكون الجواب قد حصل ببيان المحرّمات أوّلا ثم ببيان الحلال ، أو ببيان الحلال فقط ، إذا كان بيان المحرّمات سابقا على السؤال ، وعلى الوجه الثاني قد قصد الاهتمام ببيان الحلال بوجه جامع ، فعنون الاهتمام به بإيراده بصيغة السؤال المناسب لتقدّم ذكره.
و (الطَّيِّباتُ) صفة لمحذوف معلوم من السياق ، أي الأطعمة الطيّبة ، وهي الموصوفة بالطيّب ، أي التي طابت. وأصل معنى الطيب معنى الطّهارة والزكاء والوقع الحسن في النفس عاجلا وآجلا ، فالشيء المستلذّ إذا كان وخما لا يسمّى طيّبا : لأنّه يعقب ألما أو ضرّا ، ولذلك كان طيّب كلّ شيء أن يكون من أحسن نوعه وأنفعه. وقد أطلق الطيّب على المباح شرعا ؛ لأنّ إباحة الشرع الشيء علامة على حسنه وسلامته من المضرّة ، قال تعالى : (كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً) [البقرة : ١٦٨]. والمراد بالطيّبات في قوله : (أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) معناها اللغوي ليصحّ إسناد فعل (أُحِلَ) إليها. وقد تقدّم شيء من معنى الطيّب عند قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً) في سورة البقرة [١٦٨] ، ويجيء شيء منه عند قوله تعالى : (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ) في سورة الأعراف [٥٨].
و (الطَّيِّباتُ) وصف للأطعمة قرن به حكم التحليل ، فدلّ على أنّ الطّيب علّة التحليل ، وأفاد أنّ الحرام ضدّه وهو الخبائث ، كما قال في آية الأعراف ، في ذكر الرسولصلىاللهعليهوسلم (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) [الأعراف : ١٥٧].
وقد اختلفت أقوال السلف في ضبط وصف الطيّبات ؛ فعن مالك : الطيّبات الحلال ، ويتعيّن أن يكون مراده أنّ الحلّ هو المؤذن بتحقّق وصف الطيّب في الطعام المباح ، لأنّ الوصف الطيّب قد يخفى ، فأخذ مالك بعلامته وهي الحلّ كيلا يكون قوله : (الطَّيِّباتُ) حوالة على ما لا ينضبط بين الناس مثل الاستلذاذ ، فيتعيّن ، إذن ، أن يكون قوله : (أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) غير مراد منه ضبط الحلال ، بل أريد به الامتنان والإعلام بأنّ ما أحلّه الله لهم فهو طيّب ، إبطالا لما اعتقدوه في زمن الشرك : من تحريم ما لا موجب لتحريمه ، وتحليل ما هو خبيث. ويدلّ لذلك تكرّر ذكر الطيّبات مع ذكر الحلال في القرآن ، مثل