لعدم تأثّر القلوب بالمواعظ والنذر. وقد تقدّم في قوله تعالى : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) [البقرة : ٧٤]. وقرأ الجمهور : (قاسِيَةً) ـ بصيغة اسم الفاعل ـ. وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف : (قاسِيَةً) فيكون بوزن فعيلة من قسا يقسو.
وجملة (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) استئناف أو حال من ضمير (لَعَنَّاهُمْ). والتحريف : الميل بالشيء إلى الحرف ، والحرف هو الجانب. وقد كثر في كلام العرب استعارة معاني السير وما يتعلّق به إلى معاني العمل والهدى وضدّه ؛ فمن ذلك قولهم : السلوك ، والسيرة ؛ والسعي ؛ ومن ذلك قولهم : الصراط المستقيم ، وصراطا سويا ، وسواء السبيل ، وجادّة الطريق ، والطريقة الواضحة ، وسواء الطريق ؛ وفي عكس ذلك قالوا : المراوغة ، والانحراف ، وقالوا : بنيّات الطريق ، ويعبد الله على حرف ، ويشعّب الأمور. وكذلك ما هنا ، أي يعدلون بالكلم النبويّة عن مواضعها فيسيرون بها في غير مسالكها ، وهو تبديل معاني كتبهم السماوية. وهذا التحريف يكون غالبا بسوء التأويل اتّباعا للهوى ، ويكون بكتمان أحكام كثيرة مجاراة لأهواء العامّة ، قيل : ويكون بتبديل ألفاظ كتبهم. وعن ابن عبّاس : ما يدلّ على أنّ التحريف فساد التأويل. وقد تقدّم القول في ذلك عند قوله تعالى : (مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) في سورة النساء [٤٦]. وجيء بالمضارع للدلالة على استمرارهم.
وجملة (وَنَسُوا حَظًّا) معطوفة على جملة (يُحَرِّفُونَ). والنسيان مراد به الإهمال المفضي إلى النسيان غالبا. وعبّر عنه بالفعل الماضي لأنّ النسيان لا يتجدّد ، فإذا حصل مضى ، حتّى يذكّره مذكّر. وهو وإن كان مرادا به الإهمال فإنّ في صوغه بصيغة الماضي ترشيحا للاستعارة أو الكناية لتهاونهم بالذكرى.
والحظّ النصيب ، وتنكيره هنا للتعظيم أو التكثير بقرينة الذمّ. وما ذكّروا به هو التّوراة.
وقد جمعت الآية من الدلائل على قلّة اكتراثهم بالدّين ورقّة اتّباعهم ثلاثة أصول من ذلك : وهي التعمّد إلى نقض ما عاهدوا عليه من الامتثال ، والغرور بسوء التأويل ، والنسيان الناشئ عن قلّة تعهّد الدّين وقلّة الاهتمام به.
والمقصود من هذا أن نعتبر بحالهم ونتّعظ من الوقوع في مثلها. وقد حاط علماء الإسلام ـ رضياللهعنهم ـ هذا الدّين من كلّ مسارب التحريف ، فميّزوا الأحكام المنصوصة والمقيسة ووضعوا ألقابا للتمييز بينها ، ولذلك قالوا في الحكم الثابت بالقياس :