الحروب الصّليبية على المسلمين ثمّ لم يلبثوا أن تخاذلوا وتحاربوا ، ولا يزال الأمر بينهم كذلك إلى الآن. وكم ضاعت مساعي الساعين في جمعهم على كلمة واحدة وتأليف اتّحاد بينهم ، وكان اختلافهم لطفا بالمسلمين في مختلف عصور التّاريخ الإسلامي ، على أنّ اتّفاقهم على أمّة أخرى لا ينافي تمكّن العداوة فيما بينهم ، وكفى بذلك عقابا لهم على نسيانهم ما ذكّروا به.
وقيل : الضمير عائد على الفريقين ، أي بين اليهود والنصارى ، ولا إشكال في تجسّم العداوة بين الملّتين.
وقوله : (وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ) تهديد لأنّ المراد بالإنباء إنباء المؤاخذة بصنيعهم ، كقوله : (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) [الأنعام : ١٣٥]. وهذا يحتمل أن يحصل في الآخرة فالإنباء على حقيقته ، ويحتمل أن يحصل في الدنيا ، فالإنباء مجاز في تقدير الله لهم حوادث يعرفون بها سوء صنيعتهم.
[١٥ ، ١٦] (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (١٥) يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٦))
بعد أن ذكر من أحوال فريقي أهل الكتاب وأنبائهم ما لا يعرفه غير علمائهم وما لا يستطيعون إنكاره أقبل عليهم بالخطاب بالموعظة ؛ إذ قد تهيّأ من ظهور صدق الرسولصلىاللهعليهوسلم ما يسهّل إقامة الحجّة عليهم ، ولذلك ابتدئ وصف الرسول بأنّه يبيّن لهم كثيرا ممّا كانوا يخفون من الكتاب ، ثم أعقبه بأنّه يعفو عن كثير.
ومعنى (يَعْفُوَ) يعرض ولا يظهر ، وهو أصل مادّة العفو. يقال : عفا الرسم ، بمعنى لم يظهر ، وعفاه : أزال ظهوره. ثم قالوا : عفا عن الذنب ، بمعنى أعرض ، ثم قالوا : عفا عن المذنب ، بمعنى ستر عنه ذنبه ، ويجوز أن يراد هنا معنى الصفح والمغفرة ، أي ويصفح عن ذنوب كثيرة ، أي يبيّن لكم دينكم ويعفو عن جهلكم.
وجملة (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ) بدل من جملة (قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا) بدل اشتمال ، لأنّ مجيء الرسول اشتمل على مجيء الهدى والقرآن ، فوزانها وزان (علمه) من قولهم : نفعني زيد علمه ، ولذلك فصلت عنها ، وأعيد حرف (قد) الداخل على الجملة المبدل منها