قلت : هذا العقاب قد نال موسى منه ما نال قومه ، فإنّه بقي معهم في التيه حتّى توفّي. قلت : كان ذلك هيّنا على موسى لأنّ بقاءه معهم لإرشادهم وصلاحهم وهو خصّيصة رسالته ، فالتعب في ذلك يزيده رفع درجة ، أمّا هم فكانوا في مشقّة.
(يَتِيهُونَ) يضلّون ، ومصدره التّيه ـ بفتح التّاء وسكون الياء ـ والتيه ـ بكسر التّاء وسكون التحتية ـ. وسمّيت المفازة تيهاء وسمّيت تيها. وقد بقي بنو إسرائيل مقيمين في جهات ضيّقة ويسيرون الهوينا على طريق غير منتظم حتّى بلغوا جبل (نيبو) على مقربة من نهر (الأردن) ، فهنالك توفّي موسى ـ عليهالسلام ـ وهنالك دفن. ولا يعرف موضع قبره كما في نصّ كتاب اليهود. وما دخلوا الأرض المقدسة حتّى عبروا الأردن بقيادة يوشع بن نون خليفة موسى. وقد استثناه الله تعالى هو وكالب بن يفنّة ، لأنّهما لم يقولا : لن ندخلها. وأمّا بقية الرّوّاد الذين أرسلهم موسى لاختبار الأرض فوافقوا قومهم في الامتناع من دخولها.
وقوله : (فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) تفريع على الإخبار بهذا العقاب ، لأنّه علم أنّ موسى يحزنه ذلك ، فنهاه عن الحزن لأنّهم لا يستأهلون الحزن لأجلهم لفسقهم. والأسى : الحزن ، يقال أسي كفرح إذا حزن.
[٢٧ ـ ٣٠] (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٢٧) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (٢٨) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (٢٩) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٣٠))
عطف نبأ على نبإ ليكون مقدّمة للتحذير من قتل النفس والحرابة والسرقة ، ويتبع بتحريم الخمر وأحكام الوصية وغيرها ، وليحسن التخلّص ممّا استطرد من الأنباء والقصص التي هي مواقع عبرة وتنظم كلّها في جرائر الغرور. والمناسبة بينها وبين القصّة الّتي قبلها مناسبة تماثل ومناسبة تضادّ. فأما التماثل فإنّ في كلتيهما عدم الرضا بما حكم الله تعالى : فإنّ بني إسرائيل عصوا أمر رسولهم إيّاهم بالدخول إلى الأرض المقدّسة ، وأحد ابني آدم عصى حكم الله تعالى بعدم قبول قربانه لأنّه لم يكن من المتّقين. وفي كلتيهما جرأة على الله بعد المعصية ؛ فبنو إسرائيل قالوا : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ) [المائدة : ٢٤] ، وابن آدم قال :