ضدّ الإكراه ، والتطويع : محاولة الطوع. شبّه قتل أخيه بشيء متعاص عن قابيل ولا يطيعه بسبب معارضة التعقّل والخشية. وشبّهت داعية القتل في نفس قابيل بشخص يعينه ويذلّل له القتل المتعاصي ، فكان (طوّعت) استعارة تمثيلية ، والمعنى الحاصل من هذا التمثيل أنّ نفس قابيل سوّلت له قتل أخيه بعد ممانعة. وقد سلك في قوله : (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ) مسلك الإطناب ، وكان مقتضى الإيجاز أن يحذف (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ) ويقتصر على قوله (فَقَتَلَهُ) لكن عدل عن ذلك لقصد تفظيع حالة القاتل في تصوير خواطره الشرّيرة وقساوة قلبه ، إذ حدّثه بقتل من كان شأنه الرحمة به والرفق ، فلم يكن ذلك إطنابا.
ومعنى (فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ) صار ، ويكون المراد بالخسارة هنا خسارة الآخرة ، أي صار بذلك القتل ممّن خسر الآخرة ، ويجوز إبقاء (أصبح) على ظاهرها ، أي غدا خاسرا في الدّنيا ، والمراد بالخسارة ما يبدو على الجاني من الاضطراب وسوء الحالة وخيبة الرجاء ، فتفيد أنّ القتل وقع في الصّباح.
(فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١))
البعث هنا مستعمل في الإلهام بالطيران إلى ذلك المكان ، أي فألهم الله غرابا ينزل بحيث يراه قابيل. وكأنّ اختيار الغراب لهذا العمل إمّا لأنّ الدفن حيلة في الغربان من قبل ، وإمّا لأنّ الله اختاره لذلك لمناسبة ما يعتري الناظر إلى سواد لونه من الانقباض بما للأسيف الخاسر من انقباض النفس. ولعلّ هذا هو الأصل في تشاؤم العرب بالغراب ، فقالوا : غراب البين.
والضمير المستتر في «يريه» إن كان عائدا إلى اسم الجلالة فالتعليل المستفاد من اللام وإسناد الإرادة حقيقتان ، وإن كان عائدا إلى الغراب فاللام مستعملة في معنى فاء التفريع ، وإسناد الإرادة إلى الغراب مجاز ، لأنّه سبب الرؤية فكأنّه مريء. و (كَيْفَ) يجوز أن تكون مجرّدة عن الاستفهام مرادا منها الكيفية ، أو للاستفهام ، والمعنى : ليريه جواب كيف يواري.