فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (٣٢))
(مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً).
يتعيّن أن يكون (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ) تعليلا ل (كَتَبْنا) ، وهو مبدأ الجملة ، ويكون منتهى التي قبلها قوله : (مِنَ النَّادِمِينَ) [المائدة : ٣١]. وليس قوله (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ) معلّقا ب «النّادمين» تعليلا له للاستغناء عنه بمفاد الفاء في قوله (فَأَصْبَحَ) [المائدة : ٣١].
و (مِنْ) للابتداء ، والأجل الجرّاء والتسبّب (١) أصله مصدر أجل يأجل ويأجل كنصر وضرب بمعنى جنى واكتسب. وقيل : هو خاصّ باكتساب الجريمة ، فيكون مرادفا لجنى وجرم ، ومنه الجناية والجريمة ، غير أنّ العرب توسّعوا فأطلقوا الأجل على المكتسب مطلقا بعلاقة الإطلاق. والابتداء الذي استعملت له (من) هنا مجازي ، شبّه سبب الشيء بابتداء صدوره ، وهو مثار قولهم : إنّ من معاني (من) التعليل ، فإنّ كثرة دخولها على كلمة «أجل» أحدث فيها معنى التّعليل ، وكثر حذف كلمة أجل بعدها محدث فيها معنى التّعليل ، كما في قول الأعشى :
فآليت لا أرثي لها من كلالة |
|
ولا من حفى حتّى ألاقي محمّدا |
واستفيد التّعليل من مفاد الجملة. وكان التّعليل بكلمة من أجل أقوى منه بمجرّد اللام ، ولذلك اختير هنا ليدلّ على أنّ هذه الواقعة كانت هي السّبب في تهويل أمر القتل وإظهار مثالبه. وفي ذكر اسم الإشارة وهو خصوص (ذلِكَ) قصد استيعاب جميع المذكور.
وقرأ الجمهور (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ) ـ بسكون نون (من) وإظهار همزة (أجل) ـ. وقراءة ورش عن نافع ـ بفتح النّون وحذف همزة أجل ـ على طريقته. وقرأ أبو جعفر (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ) ـ بكسر نون (من) وحذف همزة أجل بعد نقل حركتها إلى النّون فصارت غير
__________________
(١) الجرّاء ـ بفتح الجيم وتشديد الراء ـ وهو بالمدّ ، وبالقصر : التسبّب ، مشتقّ من جرّ إذا سبّب وعلل.