قتل ، ولو دعته أن يقتل النّاس جميعا لفعل. ولك أن تجعل المقصد من التشبيه توجيه حكم القصاص وحقّيّته ، وأنّه منظور فيه لحقّ المقتول بحيث لو تمكّن لما رضي إلّا بجزاء قاتله بمثل جرمه ؛ فلا يتعجّب أحد من حكم القصاص قائلا : كيف نصلح العالم بمثل ما فسد به ، وكيف نداوي الداء بداء آخر ، فبيّن لهم أنّ قاتل النّفس عند وليّ المقتول كأنّما قتل النّاس جميعا. وقد ذكرت وجوه في بيان معنى التشبيه لا يقبلها النّظر.
ومعنى (وَمَنْ أَحْياها) من استنقذها من الموت ، لظهور أنّ الإحياء بعد الموت ليس من مقدور النّاس ، أي ومن اهتمّ باستنقاذها والذبّ عنها فكأنّما أحيا الناس جميعا بذلك التّوجيه الّذي بيّنّاه آنفا ، أو من غلّب وازع الشرع والحكمة على داعي الغضب والشهوة فانكفّ عن القتل عند الغضب.
(وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ).
تذييل لحكم شرع القصاص على بني إسرائيل ، وهو خبر مستعمل كناية عن إعراضهم عن الشريعة ، وأنّهم مع ما شدّد عليهم في شأن القتل ولم يزالوا يقتلون ، كما أشعر به قوله (بَعْدَ ذلِكَ) ، أي بعد أن جاءتهم رسلنا بالبيّنات. وحذف متعلّق «مسرفون» لقصد التّعميم. والمراد مسرفون في المفاسد الّتي منها قتل الأنفس بقرينة قوله : (فِي الْأَرْضِ) ، فقد كثر في استعمال القرآن ذكر (فِي الْأَرْضِ) [البقرة : ٦٠] مع ذكر الإفساد.
وجملة (ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ) عطف على جملة (وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ). و (ثمّ) للتراخي في الرتبة ، لأنّ مجيء الرّسل بالبيّنات شأن عجيب ، والإسراف في الأرض بعد تلك البيّنات أعجب. وذكر (فِي الْأَرْضِ) لتصوير هذا الإسراف عند السامع وتفظيعه ، كما في قوله تعالى : (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها) [الأعراف : ٥٦]. وتقديم (فِي الْأَرْضِ) للاهتمام وهو يفيد زيادة تفظيع الإسراف فيها مع أهميّة شأنها.
وقرأ الجمهور (رُسُلُنا) ـ بضمّ السّين ـ. وقرأه أبو عمرو ويعقوب ـ بإسكان السّين ـ.
[٣٣ ، ٣٤] (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٣٣) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٤))