وأبو حنيفة ، والمرويّ عن مالك أنّ هذا التخيير لأجل الحرابة ، فإن اجترح في مدّة حرابته جريمة ثابتة توجب الأخذ بأشدّ العقوبة كالقتل ؛ قتل دون تخيير ، وهو مدرك واضح. ثمّ ينبغي للإمام بعد ذلك أن يأخذ في العقوبة بما يقارب جرم المحارب وكثرة مقامه في فساده. وذهب جماعة إلى أنّ (أو) في الآية للتّقسيم لا للتخيير ، وأنّ المذكورات مراتب للعقوبات بحسب ما اجترحه المحارب : فمن قتل وأخذ المال قتل وصلب ، ومن لم يقتل ولا أخذ مالا عزّر ، ومن أخاف الطريق نفي ، ومن أخذ المال فقط قطع ، وهو قول ابن عبّاس ، وقتادة ، والحسن ، والسديّ ، والشافعي. ويقرب خلافهم من التّقارب.
والأمر الثّاني : أنّ هذه العقوبات هي لأجل الحرابة وليست لأجل حقوق الأفراد من النّاس ، كما دلّ على ذلك قوله بعد (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) الآية وهو بيّن. ولذلك فلو أسقط المعتدى عليهم حقوقهم لم يسقط عن المحارب عقوبة الحرابة.
وقوله (ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا) ، أي الجزاء خزي لهم في الدّنيا. والخزي : الذلّ والإهانة (وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ) [آل عمران : ١٩٤]. وقد دلّت الآية على أنّ لهؤلاء المحاربين عقابين : عقابا في الدّنيا وعقابا في الآخرة. فإن كان المقصود من المحاربين في الآية خصوص المحاربين من أهل الكفر كالعرنيّين ، كما قيل به ، فاستحقاقهم العذابين ظاهر ، وإن كان المراد به ما يشمل المحارب من أهل الإسلام كانت الآية معارضة لما ورد في الحديث الصّحيح في حديث عبادة بن الصامت من قول رسول الله صلىاللهعليهوسلم حين أخذ البيعة على المؤمنين بما تضمّنته آية (إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ) [الممتحنة : ١٢] إلخ فقال : «فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به فهو كفارة له ومن أصاب منها شيئا فستره الله فهو إلى الله إن شاء عذّبه وإن شاء غفر له». فقوله : فهو كفارة له ، دليل على أنّ الحدّ يسقط عقاب الآخرة ، فيجوز أن يكون ما في الآية تغليظا على المحاربين بأكثر من أهل بقيّة الذنوب ، ويجوز أن يكون تأويل ما في هذه الآية على التفصيل ، أي لهم خزي في الدنيا إن أخذوا به ، ولهم في الآخرة عذاب عظيم إن لم يؤخذوا به في الدّنيا.
والاستثناء بقوله : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) راجع إلى الحكمين خزي الدّنيا وعذاب الآخرة ، بقرينة قوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) ، لأنّ تأثير التّوبة في النجاة من عذاب الآخرة لا يتقيّد بما قبل القدرة عليهم. وقد دلّت أداة الاستثناء على سقوط العقوبة عن المحارب في هذه الحالة ؛ فتمّ الكلام بها ، خ ز لأنّ الاستثناء كلام مستقلّ لا يحتاج إلى