المستفاد هنا إضافي ، أي دون الاشتغال بإظهار ما تقترحونه من الخوارق للعادة. والغرض من القصر قلب اعتقادهم أنّ الرسول لا يكون رسولا حتّى يأتيهم بالعجائب المسئولة. وقد حصل بذلك بيان حقيقة الرسالة تلك الحقيقة التي ضلّ عن إدراكها المعاندون. وهذا معنى قوله تعالى : (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) [الأنعام : ٤٨].
وإذ قد كان القصر إضافيا كان لا محالة ناظرا إلى قلب اعتقادهم بالنسبة لمطالبهم باتّباع مقترحاتهم ، أي لا أتّبع في التبليغ إليكم إلّا ما يوحى إليّ. فليس في هذا الكلام ما يقتضي قصر تصرّف الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ على العمل بالوحي حتّى يحتجّ بها من ينفي من علمائنا جواز الاجتهاد للنبي صلىاللهعليهوسلم في أمور الدين لأنّ تلك مسألة مستقلّة لها أدلّة للجانبين ، ولا مساس لها بهذا القصر. ومن توهّمه فقد أساء التأويل.
(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ).
هذا ختام للمجادلة معهم وتذييل للكلام المفتتح بقوله (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) ، أي قل لهم هذا التذييل عقب ذلك الاستدلال.
وشبّهت حالة من لا يفقه الأدلّة ولا يفكّك بين المعاني المتشابهة بحالة الأعمى الذي لا يعرف أين يقصد ولا أين يضع قدمه. وشبّهت حالة من يميّز الحقائق ولا يلتبس عليه بعضها ببعض بحالة القويّ البصر حيث لا تختلط عليه الأشباح. وهذا تمثيل لحال المشركين في فساد الوضع لأدلّتهم وعقم أقيستهم ، ولحال المؤمنين الذين اهتدوا ووضعوا الأشياء مواضعها ، أو تمثيل لحال المشركين التي هم متلبّسون بها والحال المطلوبة منهم التي نفروا منها ليعلموا أيّ الحالين أولى بالتخلّق.
وقوله (أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) استفهام إنكار. وهو معطوف بالفاء على الاستفهام الأول ، لأنّه مترتّب عليه لأنّ عدم استواء الأعمى والبصير بديهي لا يسعهم إلّا الاعتراف بعدم استوائهما فلا جرم أن يتفرّع عليه إنكار عدم تفكّرهم في أنّهم بأيّهما أشبه. والكلام على الأمر بالقول مثل ما تقدّم عند قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ) [الأنعام : ٤٠].
والتفكّر : جولان العقل في طريق استفادة علم صحيح.
(وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٥١))