و (من) في قوله : (مِنْ شَيْءٍ) زائدة لتوكيد النفي للتنصيص على الشمول في سياق النفي ، وهو الحرف الذي بتقديره بني اسم (لا) على الفتح للدلالة على إرادة نفي الجنس.
وتقديم المسندين على المسند إليهما في قوله (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) تقديم غير واجب لأنّ للابتداء بالنكرتين هنا مسوّغا ، وهو وقوعهما في سياق النفي ، فكان تقديم المجرورين هنا اختياريا فلا بدّ له من غرض. والغرض يحتمل مجرّد الاهتمام ويحتمل الاختصاص. وحيث تأتّى معنى الاختصاص هنا فاعتباره أليق بأبلغ كلام ، ولذلك جرى عليه كلام «الكشاف». وعليه فمعنى الكلام قصر نفي حسابهم على النبي صلىاللهعليهوسلم ليفيد أنّ حسابهم على غيره وهو الله تعالى. وذلك هو مفاد القصر الحاصل بالتقديم إذا وقع في سياق النفي ، وهو مفاد خفي على كثير لقلّة وقوع القصر بواسطة التقديم في سياق النفي. ومثاله المشهور قوله تعالى : (لا فِيها غَوْلٌ) [الصافات : ٤٧] فإنّهم فسّروه بأنّ عدم الغول مقصور على الاتّصاف بفي خمور الجنّة ، فالقصر قصر قلب.
وقد اجتمع في هذا الكلام خمسة مؤكّدات. وهي (من) البيانية ، و (من) الزّائدة ، وتقديم المعمول ، وصيغة الحصر في قوله : (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) ، والتأكيد بالتّتميم بنفي المقابل في قوله : (وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) ، فإنّه شبيه بالتوكيد اللفظي. وكلّ ذلك للتنصيص على منتهى التبرئة من محاولة إجابتهم لاقتراحهم.
ويفيد هذا الكلام التعريض برؤساء قريش الذين سألوا إبعاد الفقراء عن مجلس الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ حين ما يحضرون وأوهموا أنّ ذلك هو الحائل لهم دون حضور مجلس الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ والإيمان به والكون من أصحابه ، فخاطب الله رسوله بهذا الكلام إذ كان الرسول هو المسئول أن يقضي أصحابه عن مجلسه ليعلم السائلون أنّهم سألوه ما لا يقع ويعلموا أنّ الله أطلع رسوله صلىاللهعليهوسلم على كذبهم ، وأنّهم لو كانوا راغبين في الإيمان لما كان عليهم حساب أحوال الناس ولاشتغلوا بإصلاح خويصتهم ، فيكون الخطاب على نحو قوله تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر : ٦٥]. وقد صرّح بذلك في قوله بعد (وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) [الأنعام : ٥٥]. وإذ كان القصر ينحلّ على نسبتي إثبات ونفي فالنسبة المقدّرة مع القصر وهي نسبة الإثبات ظاهرة من الجمع بين ضمير المخاطب وضمير الغائبين ، أي عدم حسابهم مقصور عليك ، فحسابهم على أنفسهم إذ كلّ نفس بما كسبت رهينة.