والخطاب في قوله (خَلَقَكُمْ) موجّه إلى الذين كفروا ، ففيه التفات من الغيبة إلى الخطاب لقصد التوبيخ.
وذكر مادّة ما منه الخلق بقوله : (مِنْ طِينٍ) لإظهار فساد استدلالهم على إنكار الخلق الثاني ، لأنّهم استبعدوا أن يعاد خلق الإنسان بعد أن صار ترابا. وتكرّرت حكاية ذلك عنهم في القرآن ، فقد اعترفوا بأنّهم يصيرون ترابا بعد الموت ، وهم يعترفون بأنّهم خلقوا من تراب ، لأنّ ذلك مقرّر بين الناس في سائر العصور ، فاستدلّوا على إنكار البعث بما هو جدير بأن يكون استدلالا على إمكان البعث ، لأنّ مصيرهم إلى تراب يقرّب إعادة خلقهم ، إذ صاروا إلى مادة الخلق الأوّل ، فلذلك قال الله هنا (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) وقال في آيات الاعتبار بعجيب تكوينه (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ) [الإنسان : ٢] ، وأمثال ذلك.
وهذا القدح في استدلالهم يسمّى في اصطلاح علم الجدل القول بالموجب ، والمنبّه عليه من خطأ استدلالهم يسمّى فساد الوضع.
ومعنى (خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) أنّه خلق أصل النّاس وهو البشر الأوّل من طين ، فكان كلّ البشر راجعا إلى الخلق من الطين ، فلذلك قال (خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ). وقال في موضع آخر (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ) [الإنسان : ٢] أي الإنسان المتناسل من أصل البشر.
و (ثُمَ) للترتيب والمهلة عاطفة فعل (قَضى) على فعل خلق فهو عطف فعل على فعل وليس عطف جملة على جملة. والمهلة هنا باعتبار التوزيع ، أي خلق كلّ فرد من البشر ثم قضى له أجله ، أي استوفاه له ، ف (قَضى) هنا ليس بمعنى (قدّر) لأنّ تقدير الأجل مقارن للخلق أو سابق له وليس متأخّرا عنه ولكن (قَضى) هنا بمعنى (أوفى) أجل كلّ مخلوق كقوله : (فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ) [سبأ : ١٤] ، أي أمتناه. ولك أن تجعل (ثم) للتراخي الرتبي.
وإنّما اختير هنا ما يدلّ على تنهية أجل كلّ مخلوق من طين دون أن يقال : إلى أجل ، لأنّ دلالة تنهية الأجل على إمكان الخلق الثاني ، وهو البعث ، أوضح من دلالة تقدير الأجل ، لأنّ التقدير خفي والذي يعرفه الناس هو انتهاء أجل الحياة ، ولأنّ انتهاء أجل الحياة مقدمة للحياة الثانية.