بأصولهم أن يقال : الأمور أربعة أقسام ؛ فإنّها إمّا أن لا تكون متشكّلة ولا متغيّرة ، وإمّا أن تكون متشكّلة غير متغيّرة ، وإمّا أن تكون متغيّرة غير متشكّلة ؛ وإمّا أن تكون متشكّلة ومتغيّرة معا. فأمّا ما لا تكون متشكّلة ولا متغيّرة فإنّه تعالى عالم به سواء كان كليّا أو جزئيا. وكيف يمكن القول بأنّه تعالى لا يعلم الجزئيّات منها مع اتّفاق الأكثر منهم على علمه تعالى بذاته المخصوصة وبالعقول.
وأمّا المتشكّلة غير المتغيّرة وهي الأجرام العلوية فهي غير معلومة له تعالى بأشخاصها عندهم ، لأنّ إدراك الجسمانيات لا يكون إلّا بآلات جسمانية.
وأمّا المتغيّرة غير المتشكّلة فذلك مثل الصور والأعراض الحادثة والنفوس الناطقة ، فإنّها غير معلومة له لأنّ تعلّقها يحوج إلى آلة جسمانية بل لأنّها لمّا كانت متغيّرة يلزم من تغيّرها العلم.
وأمّا ما يكون متشكّلا ومتغيّرا فهو الأجسام الكائنة الفاسدة (١). وهي يمتنع أن تكون مدركة له تعالى للوجهين (أي المذكورين في القسمين الثاني والثالث) ا ه.
وقد عدّ إنكار الفلاسفة أنّ الله يعلم الجزئيّات من أصول ثلاثة لهم خالفت المعلوم بالضرورة من دين الإسلام. وهي : إنكار علم الله بالجزئيّات ؛ وإنكار حشر الأجساد ، والقول بقدم العالم. ذكر ذلك الغزالي في «تهافت الفلاسفة» فمن يوافقهم في ذلك من المسلمين يعتبر قوله كفرا ، لكنّه من قبيل الكفر باللازم فلا يعتبر قائله مرتدّا إلّا بعد أن يوقف على ما يفضي إليه قوله ويأبى أن يرجع عنه فحينئذ يستتاب ثلاثا فإن تاب وإلّا حكم بردّته.
(وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٦٠))
عطف جملة (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ) على جملة (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها) [الأنعام : ٥٩] انتقالا من بيان سعة علمه إلى بيان عظيم قدرته لأنّ ذلك كلّه من دلائل الإلهية تعليما لأوليائه ونعيا على المشركين أعدائه. وقد جرت عادة القرآن بذكر دلائل الوحدانية في أنفس الناس عقب ذكر دلائلها في الآفاق فجمع ذلك هنا على وجه بديع مؤذن بتعليم
__________________
(١) يعني التي يعتريها الكون والفساد.