والإعراض تقدّم تفسيره عند قوله تعالى : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ) في سورة النساء [٦٣]. والإعراض عنهم هنا هو ترك الجلوس إلى مجالسهم ، وهو مجاز قريب من الحقيقة لأنّه يلزمه الإعراض الحقيقي غالبا ، فإن هم غشوا مجلس الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ فالإعراض عنهم أن يقوم عنهم وعن ابن جريج : فجعل إذا استهزءوا قام فحذروا وقالوا لا تستهزءوا فيقوم. وفائدة هذا الإعراض زجرهم وقطع الجدال معهم لعلّهم يرجعون عن عنادهم.
و (حَتَّى) غاية للإعراض لأنّه إعراض فيه توقيف دعوتهم زمانا أوجبه رعي مصلحة أخرى هي من قبيل الدعوة فلا يضرّ توقيف الدعوة زمانا ، فإذا زال موجب ذلك عادت محاولة هديهم إلى أصلهم لأنّها تمحّضت للمصلحة.
وإنّما عبّر عن انتقالهم إلى حديث آخر بالخوض لأنّهم لا يتحدّثون إلّا فيما لا جدوى له من أحوال الشرك وأمور الجاهلية.
و (غَيْرِهِ) صفة ل (حَدِيثٍ). والضمير المضاف إليه عائد إلى الخوض باعتبار كونه حديثا حسبما اقتضاه وصف (حَدِيثٍ) بأنّه غيره.
وقوله (وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) عطف حالة النّسيان زيادة في تأكيد الأمر بالإعراض. وأسند الإنساء إلى الشيطان فدلّنا على أنّ النسيان من آثار الخلقة التي جعل الله فيها حظّا العلم الشيطان. كما ورد أنّ التثاؤب من الشيطان ، وليس هذا من وسوسة الشيطان في أعمال الإنسان لأنّ الرسول صلىاللهعليهوسلم معصوم من وسوسة الشيطان في ذلك ، فالنسيان من الأعراض البشرية الجائزة على الأنبياء في غير تبليغ ما أمروا بتبليغه ، عند جمهور علماء السنّة من الأشاعرة وغيرهم. قال ابن العربي في «الأحكام» : إنّ كبار الرافضة هم الذين ذهبوا إلى تنزيه النبي صلىاللهعليهوسلم من النسيان ا ه. وهو قول لبعض الأشعرية وعزي إلى الأستاذ أبي إسحاق الأسفرائيني فيما حكاه نور الدين الشيرازي في «شرح للقصيدة النونية» لشيخه تاج الدين السبكي. ويتعيّن أنّ مراده بذلك فيما طريقه البلاغ كما يظهر ممّا حكاه عنه القرطبي : وقد نسي رسول الله صلىاللهعليهوسلم فسلّم من ركعتين في الصلاة الرباعية ، ونسي آيات من بعض السور تذكّرها لمّا سمع قراءة رجل في صلاة الليل ، كما في الصحيح. وفي الحديث الصحيح : «إنّما أنا بشر أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكّروني» فذلك نسيان استحضارها بعد أن بلّغها. وليس نظرنا في جواز ذلك وإنّما نظرنا في إسناد ذلك إلى الشيطان فإنّه يقتضي أنّ للشيطان حظّا له أثر في نفس