الرسول ، فيجوز أن تكون بعض الأعراض البشرية التي يجوز طروّها على الأنبياء قد جعلها الله في أصل الخلقة من عمل الشياطين ، كما جعل بعض الأعراض موكولة للملائكة ، ويكون النسيان من جملة الأعراض الموكولة إلى الشياطين كما تكرّر إسناده إلى الشيطان في آيات كثيرة منها. وهذا مثل كون التثاؤب من الشيطان ، وكون ذات الجنب من الشيطان. وقد قال أيّوب (أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) [ص : ٤١] ، وحينئذ فالوجه أنّ الأعراض البشرية الجائزة على الأنبياء التي لا تخلّ بتبليغ ولا توقع في المعصية قد يكون بعضها من أثر عمل الشيطان وأنّ الله عصمهم من الشيطان فيما عدا ذلك.
ويجوز أن يكون محمد صلىاللهعليهوسلم قد خصّ من بين الأنبياء بأن لا سلطة لعمل شيطاني عليه ولو كان ذلك من الأعراض الجائزة على مقام الرسالة ، فإنّما يتعلّق به من تلك الأعراض ما لا أثر للشيطان فيه. وقد يدلّ لهذا ما ورد في حديث شقّ الصدر : أنّ جبريل لمّا استخرج العلقة قال : هذا حظّ الشيطان منك ، يعني مركز تصرّفاته ، فيكون الشيطان لا يتوصّل إلى شيء يقع في نفس نبيّنا صلىاللهعليهوسلم إلّا بواسطة تدبير شيء يشغل النبي حتّى ينسى مثل ما ورد في حديث «الموطأ» حين نام رسول الله صلىاللهعليهوسلم ووكّل بلالا بأن يكلأ لهم الفجر ، فنام بلال حتّى طلعت الشمس ، فإنّ النبي قال : «إنّ الشيطان أتى بلالا فلم يزل يهدّئه كما يهدّأ الصبيّ حتّى نام». فأمّا نوم النبي والمسلمين عدا بلالا فكان نوما معتادا ليس من عمل الشيطان. وإلى هذا الوجه أشار عياض في «الشفاء». وقريب منه ما ورد أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم رأى ليلة القدر ، فخرج ليعلم الناس فتلاحى رجلان فرفعت. فإنّ التلاحي من عمل الشيطان ، ولم يكن يستطيع رفع ليلة القدر بنفسه فوسوس بالتلاحي.
والحاصل أنّ الرّسول صلىاللهعليهوسلم معصوم من الوسوسة ، وأمّا ما دونها مثل الإنساء والنزغ فلا يلزم أن يعصم منه. وقد يفرّق بين الأمرين : أنّ الوسوسة آثارها وجودية والإنساء والنزغ آثارهما عدمية ، وهي الذهول والشغل ونحو ذلك.
فالمعنى إن أنساك الشيطان الإعراض عنهم فإن تذكّرت فلا تقعد معهم ، فهذا النسيان ينتقل به الرسول صلىاللهعليهوسلم من عبادة إلى عبادة ، ومن أسلوب في الدّعوة إلى أسلوب آخر ، فليس إنساء الشيطان إيّاه إيقاعا في معصية إذ لا مفسدة في ارتكاب ذلك ولا يحصل به غرض من كيد الشيطان في الضلال ، وقد رفع الله المؤاخذة بالنسيان ، ولذلك قال : (فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) ، أي بعد أن تتذكّر الأمر بالإعراض. فالذكرى اسم للتذكّر وهو ضدّ النّسيان ، فهي اسم مصدر ، أي إذا أغفلت بعد هذا فقعدت إليهم فإذا