والدعاء : القول الدالّ على طلب عمل من المخاطب. والهدى : ضدّ الضلال. أي يدعونه إلى ما فيه هداه. وإيثار لفظ (الْهُدَى) هنا لما فيه من المناسبة للحالة المشبّهة. ففي هذا اللفظ تجريد للتمثيلية كقوله تعالى : (فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) في سورة البقرة [١٧]. ولذلك كان لتعقيبه بقوله : (قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى) وقع بديع. وجوّز في «الكشاف» أن يكون الهدى مستعارا للطريق المستقيم.
وجملة : (ائْتِنا) بيان ل (يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى) لأنّ الدعاء فيه معنى القول. فصحّ أن يبيّن بما يقولونه إذا دعوه ، ولكونها بيانا فصلت عن التي قبلها ، وإنّما احتاج إلى بيان الدعاء إلى الهدى لتمكين التمثيل من ذهن السامع ، لأنّ المجنون لا يخاطب بصريح المقصد فلا يدعى إلى الهدى بما يفهم منه أنّه ضالّ لأنّ من خلق المجانين العناد والمكابرة ، فلذلك يدعونه بما يفهم منه رغبتهم في صحبته ومحبتهم إيّاه ، فيقولون : ائتنا ، حتّى إذا تمكّنوا منه أوثقوه وعادوا به إلى بيته.
وقد شبّهت بهذا التمثيل العجيب حالة من فرض ارتداده إلى ضلالة الشرك بعد هدى الإسلام لدعوة المشركين إيّاه وتركه أصحابه المسلمين الذين يصدّونه عنه ، بحال الذي فسد عقله باستهواء من الشياطين والجنّ ، فتاه في الأرض بعد أن كان عاقلا عارفا بمسالكها ، وترك رفقته العقلاء يدعونه إلى موافقتهم ، وهذا التركيب البديع صالح للتفكيك بأن يشبّه كل جزء من أجزاء الهيئة المشبّهة بجزء من أجزاء الهيئة المشبّهة بها ، بأن يشبه الارتداد بعد الإيمان بذهاب عقل المجنون ، ويشبّه الكفر بالهيام في الأرض ، ويشبّه المشركون الذين دعوهم إلى الارتداد بالشياطين وتشبّه دعوة الله الناس للإيمان ونزول الملائكة بوحيه بالأصحاب الذين يدعون إلى الهدى. وعلى هذا التفسير يكون (كَالَّذِي) صادقا على غير معيّن ، فهو بمنزلة المعرّف بلام الجنس. وروي عن ابن عباس أنّ الآية نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصدّيق حين كان كافرا وكان أبوه وأمّه يدعوانه إلى الإسلام فيأبى ، وقد أسلم في صلح الحديبية وحسن إسلامه.
(وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (٧٣))