فالتقدير : وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض إراء تبصير وفهم ليعلم علما على وفق لذلك التفهيم ، وهو العلم الكامل وليكون من الموقنين. وقد تقدّم بيان هذا عند تفسير قوله تعالى : (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ)(١)(الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) في هذه السورة [٥٦].
والموقن هو العالم علما لا يقبل الشكّ ، وهو الإيقان. والمراد الإيقان في معرفة الله تعالى وصفاته. وقوله : (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) أبلغ من أن يقال : وليكون موقنا كما تقدّم عند قوله تعالى : (قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) في هذه السورة [٥٦].
[٧٦ ـ ٧٩] (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (٧٦) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (٧٧) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٧٩))
(فَلَمَّا جَنَ) تفريع على قوله : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الأنعام : ٧٥] بقرينة قوله : (رَأى كَوْكَباً) فإنّ الكوكب من ملكوت السماوات ، وقوله في المعطوف عليه (نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الأنعام : ٧٥]. فهذه الرؤية الخاصّة التي اهتدى بها إلى طريق عجيب فيه إبكات لقومه ملجئ إيّاهم للاعتراف بفساد معتقدهم ، هي فرع من تلك الإراءة التي عمّت ملكوت السماوات والأرض ، لأنّ العطف بالفاء يستدعي مزيد الاتّصال بين المعطوف والمعطوف عليه لما في معنى الفاء من التفريع والتسبّب ، ولذلك نعدّ جعل الزمخشري (فَلَمَّا جَنَ) عطفا على (قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ) [الأنعام : ٧٤] ، وجعله ما بينهما اعتراضا ، غير رشيق.
وقوله : (جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) أي أظلم الليل إظلاما على إبراهيم ، أي كان إبراهيم محوطا بظلمة الليل ، وهو يقتضي أنّه كان تحت السّماء ولم يكن في بيت.
ويؤخذ من قوله بعده (قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) أنّه كان سائرا مع فريق من قومه يشاهدون الكواكب ، وقد كان قوم إبراهيم صابئين يعبدون الكواكب ويصوّرون لها
__________________
(١) في المطبوعة : (نصرف) ، وهو خطأ ، والمثبت هو الموافق للمصحف.