أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) بعض اليهود وروي عن سعيد بن جبير وعكرمة أنّ قائل ذلك مالك بن الصيف القرظي وكان من أحبار اليهود بالمدينة ، وكان سمينا وأنّه جاء يخاصم النّبيء صلىاللهعليهوسلم فقال له النّبيء «أنشدك بالّذي أنزل التّوراة على موسى أما تجد في التّوراة أنّ الله يبغض الحبر السمين» فغضب وقال : والله ما أنزل الله على بشر من شيء. وعن السدّي : أنّ قائله فنحاص اليهودي. ومحمل ذلك كلّه على أنّ قائل ذلك منهم قاله جهلا بما في كتبهم فهو من عامّتهم ، أو قاله لجاجا وعنادا. وأحسب أنّ هذه الرّوايات هي الّتي ألجأت رواتها إلى ادّعاء أنّ هذه الآيات نزلت بالمدينة ، كما تقدّم في الكلام على أوّل هذه السورة.
وعليه يكون وقع هذه الآيات في هذا الموقع لمناسبة قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) [الأنعام : ٨٩] الآية ، وتكون الجملة كالمعترضة في خلال إبطال حجاج المشركين. وحقيقة (قَدَرُوا) عيّنوا القدر وضبطوه أي ، علّموه علما عن تحقّق.
والقدر ـ بفتح فسكون ـ مقياس الشيء وضابطه ، ويستعمل مجازا في علم الأمر بكنهه وفي تدبير الأمر. يقال : قدر القوم أمرهم يقدرونه ـ بضمّ الدّالّ ـ في المضارع ، أي ضبطوه ودبّروه. وفي الحديث قول عائشة : «فاقدروا قدر الجارية الحديثة السنّ». وهو هنا مجاز في العلم الصّحيح ، أي ما عرفوا الله حقّ معرفته وما علموا شأنه وتصرّفاته حقّ العلم بها ، فانتصب (حَقَ) على النّيابة عن المفعول المطلق لإضافته إلى المصدر وهو (قَدْرِهِ) ، والإضافة هنا من إضافة الصّفة إلى الموصوف. والأصل : ما قدروا الله قدره الحقّ.
و (إِذْ قالُوا) ظرف ، أي ما قدروه حين قالوا (ما أَنْزَلَ اللهُ) لأنّهم لمّا نفوا شأنا عظيما من شئون الله ، وهو شأن هديه النّاس وإبلاغهم مراده بواسطة الرّسل ، قد جهلوا ما يفضي إلى الجهل بصفة من صفات الله تعالى الّتي هي صفة الكلام ، وجهلوا رحمته للنّاس ولطفه بهم.
ومقالهم هذا يعمّ جميع البشر لوقوع النكرة في سياق النّفي لنفي الجنس ، ويعمّ جميع ما أنزل باقترانه ب (مِنْ) في حيز النّفي للدّلالة على استغراق الجنس أيضا ، ويعمّ إنزال الله تعالى الوحي على البشر بنفي المتعلّق بهذين العمومين.
والمراد ب (شَيْءٍ) هنا شيء من الوحي ، ولذلك أمر الله نبيّه بأن يفحمهم باستفهام تقرير وإلجاء بقوله : (مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى) فذكّرهم بأمر لا يستطيعون جحده لتواتره في بلاد العرب ، وهو رسالة موسى ومجيئه بالتّوراة وهي تدرس بين اليهود