اليهود عن نبوءة محمّد صلىاللهعليهوسلم فقرءوا لهم ما في التّوراة من التمسّك بالسبت ، أي دين اليهود ، وكتموا ذكر الرّسول صلىاللهعليهوسلم الّذي يأتي من بعد ، فأسند الإخفاء والإبداء إلى المشركين مجازا لأنّهم كانوا مظهرا من مظاهر ذلك الإخفاء والإبداء. ولعلّ ذلك صدر من اليهود بعد أن دخل الإسلام المدينة وأسلم من أسلم من الأوس والخزرج ، فعلم اليهود وبال عاقبة ذلك عليهم فأغروا المشركين بما يزيدهم تصميما على المعارضة. وقد قدّمت ما يرجّح أنّ سورة الأنعام نزلت في آخر مدّة إقامة رسول الله صلىاللهعليهوسلم بمكّة ، وذلك يوجب ظننّا بأنّ هذه المدّة كانت مبدأ مداخلة اليهود لقريش في مقاومة الدّعوة الإسلاميّة بمكّة حين بلغت إلى المدينة.
قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، ويعقوب يجعلونه ، ويبدونها ، ويخفون ـ بالتحتيّة ـ فتكون ضمائر الغيبة عائدة إلى معروف عند المتكلّم ، وهم يهود الزّمان الّذين عرفوا بذلك.
والقراطيس جمع قرطاس. وقد تقدّم عند قوله تعالى : (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ) في هذه السّورة [٧]. وهو الصحيفة من أي شيء كانت من رقّ أو كاغد أو خرقة. أي تجعلون الكتاب الّذي أنزل على موسى أوراقا متفرّقة قصدا لإظهار بعضها وإخفاء بعض آخر.
وقوله : (تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً) صفة لقراطيس ، أي تبدون بعضها وتخفون كثيرا منها ، ففهم أنّ المعنى تجعلونه قراطيس لغرض إبداء بعض وإخفاء بعض.
وهذه الصّفة في محلّ الذمّ فإنّ الله أنزل كتبه للهدى ، والهدى بها متوقّف على إظهارها وإعلانها ، فمن فرّقها ليظهر بعضا ويخفي بعضا فقد خالف مراد الله منها. فأمّا لو جعلوه قراطيس لغير هذا المقصد لما كان فعلهم مذموما ، كما كتب المسلمون القرآن في أجزاء منفصلة لقصد الاستعانة على القراءة ، وكذلك كتابة الألواح في الكتاتيب لمصلحة.
وفي «جامع العتبية» في سماع ابن القاسم عن مالك سئل مالك ـ رحمهالله ـ عن القرآن يكتب أسداسا وأسباعا في المصاحف ، فكره ذلك كراهية شديدة وعابها وقال لا يفرّق القرآن وقد جمعه الله وهؤلاء يفرّقونه ولا أرى ذلك ا ه. قال ابن رشد في «البيان والتّحصيل» : القرآن أنزل إلى النّبيء صلىاللهعليهوسلم شيئا بعد شيء حتّى كمل واجتمع جملة واحدة فوجب أن يحافظ على كونه مجموعا ، فهذا وجه كراهيّة مالك لتفريقه ا ه.
قلت : ولعلّه إنّما كره ذلك خشية أن يكون ذلك ذريعة إلى تفرّق أجزاء المصحف