والقرآن مبارك لأنّه يدلّ على الخير العظيم ، فالبركة كائنة به ، فكأنّ البركة جعلت في ألفاظه ، ولأنّ الله تعالى قد أودع فيه بركة لقارئه المشتغل به بركة في الدّنيا وفي الآخرة ، ولأنّه مشتمل على ما في العمل به كمال النّفس وطهارتها بالمعارف النّظريّة ثمّ العمليّة. فكانت البركة ملازمة لقراءته وفهمه. قال فخر الدّين «قد جرت سنّة الله تعالى بأنّ الباحث عنه (أي عن هذا الكتاب) المتمسّك به يحصل له عزّ الدّنيا وسعادة الآخرة. وأنا قد نقلت أنواعا من العلوم النّقليّة والعقليّة فلم يحصل لي بسبب شيء من العلوم من أنواع السّعادات في الدّنيا مثل ما حصل لي بسبب خدمة هذا العلم (يعني التّفسير).
و (مُصَدِّقُ) خبر عن (كِتابٌ) بدون عطف. والمصدّق تقدّم عند قوله تعالى : (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) في سورة البقرة [٩٧] ، وقوله (وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَ) وفي سورة آل عمران [٥٠]. و (الَّذِي) من قوله : (الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) اسم موصول مراد به معنى جمع. وإذ قد كان جمع الّذي وهو لا يستعمل في كلام العرب إلّا إذا أريد به العاقل وشبهه ، نحو (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ) [الأعراف : ١٩٤] لتنزيل الأصنام منزلة العاقل في استعمال الكلام عرفا. فلا يستعمل في جمع غير العاقل إلّا الّذي المفرد ، نحو قوله تعالى : (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [الزمر : ٣٣].
والمراد ب (الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) ما تقدّمه من كتب الأنبياء ، وأخصّها التّوراة والإنجيل والزّبور ، لأنّها آخر ما تداوله النّاس من الكتب المنزّلة على الأنبياء ، وهو مصدّق الكتب النّازلة قبل هذه الثّلاثة وهي صحف إبراهيم وموسى.
ومعنى كون القرآن مصدّقها من وجهين ، أحدهما : أنّ في هذه الكتب الوعد بمجيء الرّسول المقفّى على نبوءة أصحاب تلك الكتب ، فمجيء القرآن قد أظهر صدق ما وعدت به تلك الكتب ودلّ على أنّها من عند الله.
وثانيهما : أنّ القرآن مصدّق أنبيائها وصدّقها وذكر نورها وهداها ، وجاء بما جاءت به من أصول الدّين والشّريعة. ثم إنّ ما جاء به من الأحكام الّتي لم تكن ثابتة فيها لا يخالفها. وأمّا ما جاء به من الأحكام المخالفة للأحكام المذكورة فيها من فروع الشّريعة فذلك قد يبيّن فيه أنّه لأجل اختلاف المصالح ، أو لأنّ الله أراد التّيسير بهذه الأمّة.
ومعنى : (بَيْنَ يَدَيْهِ) ما سبقه ، وقد تقدّم بيانه عند قوله تعالى : (فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) في سورة البقرة [٩٧] ، وعند قوله : (وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ) في سورة آل عمران [٥٠].