والخلاف في رؤية الله في الآخرة شائع بين طوائف المتكلّمين ؛ فأثبته جمهور أهل السنّة لكثرة ظواهر الأدلّة من الكتاب والسنّة مع اتّفاقهم على أنّها رؤية تخالف الرّؤية المتعارفة. وعن مالك ـ رحمهالله ـ «لو لم ير المؤمنون ربّهم يوم القيامة لم يعيّر الكفّار بالحجاب في قوله تعالى : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) [المطففين : ١٥]. وعنه أيضا «لم ير الله في الدّنيا لأنّه باق ولا يرى الباقي بالفاني ، فإذا كان في الآخرة ورزقوا أبصارا باقية رأوا الباقي بالباقي». وأمّا المعتزلة فقد أحالوا رؤية الله في الآخرة لاستلزامها الانحياز في الجهة. وقد اتّفقنا جميعا على التّنزيه عن المقابلة والجهة ، كما اتّفقنا على جواز الانكشاف العلمي التّامّ للمؤمنين في الآخرة لحقيقة الحقّ تعالى ، وعلى امتناع ارتسام صورة المرئي في العين أو اتّصال الشّعاع الخارج من العين بالمرئي تعالى لأنّ أحوال الأبصار في الآخرة غير الأحوال المتعارفة في الدّنيا. وقد تكلّم أصحابنا بأدلّة الجواز وبأدلّة الوقوع ، وهذا ممّا يجب الإيمان به مجملا على التّحقيق. وأدلّة المعتزلة وأجوبتنا عليها مذكورة في كتب الكلام وليست من غرض التّفسير ومرجعها جميعا إلى إعمال الظاهر أو تأويله.
ثمّ اختلف أئمّتنا هل حصلت رؤية الله تعالى للنّبي صلىاللهعليهوسلم فنفى ذلك جمع من الصّحابة منهم عائشة وابن مسعود وأبو هريرة ـ رضياللهعنهم ـ وتمسّكوا بعموم هذه الآية كما ورد في حديث البخاري عن عكرمة عن عائشة. وأثبتها الجمهور ، ونقل عن أبيّ بن كعب وابن عبّاس ـ رضياللهعنهما ـ ، وعليه يكون العموم مخصوصا. وقد تعرّض لها عياض في «الشّفاء». وقد سئل عنها رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأجاب بجواب اختلف الرّواة في لفظه ، فحجب الله بذلك الاختلاف حقيقة الأمر إتماما لمراده ولطفا بعباده.
وقوله : (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) معطوف على جملة : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) فإسناد الإدراك إلى ضمير اسمه تعالى إمّا لأنّ فعل (يُدْرِكُ) استعير لمعنى ينال ، أي لا تخرج عن تصرّفه كما يقال : لحقه فأدركه ، فالمعنى يقدر على الأبصار ، أي على المبصرين ، وإمّا لاستعارة فعل (يُدْرِكُ) لمعنى يعلم لمشاكلة قوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) أي لا تعلمه الأبصار. وذلك كناية عن العلم بالخفيّات لأنّ الأبصار هي العدسات الدّقيقة الّتي هي واسطة إحساس الرّؤية أو هي نفس الإحساس وهو أخفى. وجمعه باعتبار المدركين.
وفي قوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) محسّن الطّباق.
وجملة : (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) معطوفة على جملة : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) فهي صفة