و «خبير» صفة مشبّهة من خبر ـ بضمّ الباء ـ في الماضي ، خبرا ـ بضمّ الخاء وسكون الباء ـ بمعنى علم وعرف ، فالخبير الموصوف بالعلم بالأمور الّتي شأنها أن يخبر عنها علما موافقا للواقع.
ووقوع الخبير بعد اللّطيف على المحمل الأوّل وقوع صفة أخرى هي أعمّ من مضمون (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) ، فيكمل التّذييل بذلك ويكون التّذييل مشتملا على محسّن النشر بعد اللّف ؛ وعلى المحمل الثّاني موقعه موقع الاحتراس لمعنى اللّطيف ، أي هو الرّفيق المحسن الخبير بمواقع الرّفق والإحسان وبمستحقّيه.
(قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (١٠٤))
هذا انتقال من محاجّة المشركين ، وإثبات الوحدانيّة لله بالربوبيّة من قوله : (إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى ـ إلى قوله ـ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الأنعام : ٩٥ ـ ١٠٣]. فاستؤنف الكلام بتوجيه خطاب للنّبي ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ مقول لفعل أمر بالقول في أوّل الجملة ، حذف على الشّائع من حذف القول للقرينة في قوله : (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) [الأنعام : ١٠٤]. ومناسبة وقوع هذا الاستئناف عقب الكلام المسوق إليهم من الله تعالى أنّه كالتّوقيف والشّرح والفذلكة للكلام السّابق فيقدر : قل يا محمّد قد جاءكم بصائر.
وبصائر جمع بصيرة ، والبصيرة : العقل الّذي تظهر به المعاني والحقائق ، كما أنّ البصر إدراك العين الّذي تتجلّى به الأجسام ، وأطلقت البصائر على ما هو سبب فيها. وإسناد المجيء إلى البصائر استعارة للحصول في عقولهم ، شبّه بمجيء شيء كان غائبا ، تنويها بشأن ما حصل عندهم بأنّه كالشّيء الغائب المتوقّع مجيئه كقوله تعالى : (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ) [الإسراء : ٨١]. وخلو فعل «جاء» عن علامة التّأنيث مع أنّ فاعله جمع مؤنّث لأنّ الفعل المسند إلى جمع تكسير مطلقا أو جمع مؤنّث يجوز اقترانه بتاء التّأنيث وخلوّه عنها.
و (من) ابتدائيّة تتعلّق ب «جاء» أو صفة ل (بَصائِرُ) ، وقد جعل خطاب الله بها بمنزلة ابتداء السّير من جانبه تعالى ، وهو منزّه عن المكان والزّمان ، فالابتداء مجاز لغوي ، أو هو مجاز بالحذف بتقدير : من إرادة ربّكم. والمقصود التّنويه بهذه التّعاليم والذّكريات الّتي بها البصائر ، والحثّ على العمل بها ، لأنّها مسداة إليهم ممّن لا يقع في هديه خلل ولا خطأ ،