مع ما في ذكر الربّ وإضافته من تربية المهابة وتقوية داعي العمل بهذه البصائر.
ولذلك فرّع عليه قوله : (فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ) ، أي فلا عذر لكم في الاستمرار على الضّلال بعد هذه البصائر ، ولا فائدة لغيركم فيها «فمن أبصر فلنفسه أبصر» ، أي من علم الحقّ فقد علم علما ينفع نفسه ، (وَمَنْ عَمِيَ) أي ضلّ عن الحقّ فقد ضلّ ضلالا وزره على نفسه.
فاستعير الإبصار في قوله : (أَبْصَرَ) للعلم بالحقّ والعمل به لأنّ المهتدي بهذا الهدي الوارد من الله بمنزلة الّذي نوّر له الطّريق بالبدر أو غيره ، فأبصره وسار فيه ، وبهذا الاعتبار يجوز أن يكون (أَبْصَرَ) تمثيلا موجزا ضمّن فيه تشبيه هيئة المرشد إلى الحقّ إذا عمل بها أرشد به ، بهيئة المبصر إذا انتفع ببصره.
واستعير العمى في قوله : (عَمِيَ) للمكابرة والاستمرار على الضّلال بعد حصول ما شأنه أن يقلعه لأنّ المكابر بعد ذلك كالأعمى لا ينتفع بإنارة طريق ولا بهدي هاد خرّيت. ويجوز اعتبار التّمثيليّة فيه أيضا كاعتبارها في ضدّه السابق.
واستعمل اللّام في الأوّل استعارة للنّفع لدلالتها على الملك وإنّما يملك الشّيء النّافع المدّخر للنّوائب ، واستعيرت (على) في الثّاني للضرّ والتّبعة لأنّ الشّيء الضّارّ ثقيل على صاحبه يكلّفه تعبا وهو كالحمل الموضوع على ظهره ، وهذا معروف في الكلام البليغ ، قال تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ) [فصلت : ٤٦] ، وقال (مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) [الإسراء : ١٥] ، وقال (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) ، ولأجل ذلك سمّي الإثم وزرا كما تقدّم في قوله تعالى : (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ) [الأنعام : ٣١] ، وقد جاء اللّام في موضع (على) في بعض الآيات ، كقوله تعالى : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) [الإسراء : ٧].
وفي الآية محسّن جناس الاشتقاق بين «البصائر» و «أبصر» ، وملاحظة مناسبة في الإبصار والبصائر. وفيها محسّن المطابقة بين قوله : (أَبْصَرَ) و (عَمِيَ) ، وبين (اللّام) و (على).
ويتعلّق قوله : (فَلِنَفْسِهِ) بمحذوف دلّ عليه فعل الشّرط. وتقديره : فمن أبصر فلنفسه أبصر. واقترن الجواب بالفاء نظرا لصدره إذ كان اسما مجرورا وهو غير صالح لأن يلي أداة الشّرط.