لتعيّن أن نصوّر ذلك الملك بصورة رجل ، لأنّه لا محيد عن تشكّله بشكل لتمكّن إحاطة أبصارهم به وتحيّزه فإذا تشكّل فإنّما يتشكّل في صورة رجل ليطيقوا رؤيته وخطابه ، وحينئذ يلتبس عليهم أمره كما التبس عليهم أمر محمد صلىاللهعليهوسلم.
فجملة (وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) من تمام الدليل والحجّة عليهم بعدم جدوى إرسال الملك.
واللّبس : خلط يعرض في الصفات والمعاني بحيث يعسر تمييز بعضها عن بعض. وقد تقدّم عند قوله تعالى : (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ) في سورة البقرة [ ]. وقد عدّي هنا بحرف (على) لأنّ المراد لبس فيه غلبة لعقولهم.
والمعنى : وللبسنا على عقولهم ، فشكّوا في كونه ملكا فكذّبوه ، إذ كان دأب عقولهم تطلّب خوارق العادات استدلالا بها على الصدق ، وترك إعمال النظر الذي يعرف به صدق الصادق.
و (ما) في قوله : (ما يَلْبِسُونَ) مصدرية مجرّدة عن الظرفية ، والمعنى على التشبيه ، أي وللبسنا عليهم لبسهم الذي وقع لهم حين قالوا : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) ، أي مثل لبسهم السابق الذي عرض لهم في صدق محمد عليه الصلاة والسلام.
وفي الكلام احتباك لأنّ كلا اللبسين هو بتقدير الله تعالى ، لأنّه حرمهم التوفيق. فالتقدير : وللبسنا عليهم في شأن الملك فيلبسون على أنفسهم في شأنه كما لبسنا عليهم في شأن محمد صلىاللهعليهوسلم إذ يلبسون على أنفسهم في شأنه. وهذا الكلام كلّه منظور فيه إلى حمل اقتراحهم على ظاهر حاله من إرادتهم الاستدلال ، فلذلك أجيبوا عن كلامهم إرخاء للعنان ، وإلّا فإنّهم ما أرادوا بكلامهم إلّا التعجيز والاستهزاء ، ولذلك عقّبه بقوله : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) الآية.
(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠))
عطف على جملة : (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) لبيان تفنّنهم في المكابرة والعناد تصلّبا في شركهم وإصرارا عليه ، فلا يتركون وسيلة من وسائل التنفير من قبول دعوة الإسلام إلّا توسّلوا بها. ومناسبة عطف هذا الكلام على قوله : (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ