يُشْعِرُكُمْ) على ما شاع من قول العرب ما يدريك ، لأنّ تركيب ما يدريك شاع في الكلام حتّى جرى مجرى المثل باستعمال خاصّ لا يكادون يخالفونه كما هي سنّة الأمثال أن لا تغيّر عمّا استعملت فيه ، وهو أن يكون اسم (ما) فيه استفهاما إنكاريا ، وأن يكون متعلّق يدريك هو الأمر الّذي ينكره المتكلّم على المخاطب. فلو قسنا استعمال (ما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) على استعمال (ما يدريكم) لكان وجود حرف النّفي منافيا للمقصود ، وذلك مثار تردّد علماء التّفسير والعربيّة في محمل (لا) في هذه الآية. فأمّا حين نتطلّب وجه العدول في الآية عن استعمال تركيب (ما يدريكم) وإلى إيثار تركيب (ما يُشْعِرُكُمْ) فإنّنا نعلم أنّ ذلك العدول لمراعاة خصوصيّة في المعدول إليه بأنّه تركيب ليس متّبعا فيه طريق مخصوص في الاستعمال ، فلذلك فهو جار على ما يسمح به الوضع والنظم في استعمال الأدوات والأفعال ومفاعليها ومتعلّقاتها (١).
فلنحمل اسم الاستفهام هنا على معنى التّنبيه والتشكيك في الظنّ ، ونحمل فعل (يُشْعِرُكُمْ) على أصل مقتضى أمثاله من أفعال العلم ، وإذا كان كذلك كان نفي إيمان المشركين بإتيان آية وإثباته سواء في الفرض الّذي اقتضاه الاستفهام ، فكان المتكلّم بالخيار بين أن يقول : إنّها إذا جاءت لا يؤمنون ، وأن يقول : إنّها إذا جاءت يؤمنون. وإنّما أوثر جانب النفي للإيماء إلى أنّه الطرف الرّاجح الّذي ينبغي اعتماده في هذا الظنّ.
هذا وجه الفرق بين التّركيبين. وللفروق في علم المعاني اعتبارات لا تنحصر ولا ينبغي لصاحب علم المعاني غضّ النّظر عنها ، وكثيرا ما بيّن عبد القاهر أصنافا منها فليلحق هذا الفرق بأمثاله.
__________________
(١) اعلم أن قولهم ما يدريك له ثلاثة استعمالات. أحدها : أن يكون مرادا به (الرد) على المخاطب في ظن يظنه فيقال له ما يدريك أنه كذا فيجعل متعلق فعل الدراية هو الظن الذي يريد المتكلم رده على المخاطب وهذا الاستعمال يجري فيه تركيب ما يدريك وما أدراك وما تصرف منهما مجرى المثل فلا يغير عن استعماله ، ويكون الاستفهام فيه إنكاريا ، ويلزم أن يكون متعلق الدراية على نحو ظن المخاطب من إثبات أو نفى نحو ما يدريك أنه يفعل وما يدريك أنه لا يفعل. ثانيها : أن يرد بعد فعل الدراية حرف الرجاء نحو : ما يدريك لعله يزكى ، إذا كان المخاطب غافلا عن ظنه وهو الاستعمال الذي على مثله خرج الخليل قوله تعالى : (وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) بناء على ترادف فعل يشعركم وفعل يدريكم. ثالثها : نحو وما أدراك ما القارعة ، مما وقع بعده (ما) الاستفهامية لقصد التهويل.