بعدها ، فهؤلاء أسلموا مذعنين ثمّ علموا أنّ آلهتهم لم تغن عنهم شيئا فحصل لهم الهدى بعد ذلك ، وكانوا من خيرة المسلمين ونصروا الله حقّ نصره. فالمراد من نفي الهدى عنهم : إمّا نفيه عن فريق من المشركين ، وهم الّذين ماتوا على الشّرك ، وإمّا نفي الهدى المحض الدالّ على صفاء النّفس ونور القلب ، دون الهدى الحاصل بعد الدّخول في الإسلام ، فذلك هدى في الدرجة الثّانية كما قال تعالى : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) [الحديد : ١٠].
(قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤٥))
استئناف بياني نشأ عن إبطال تحريم ما حرّمه المشركون ، إذ يتوجّه سؤال سائل من المسلمين عن المحرّمات الثابتة ، إذ أبطلت المحرّمات الباطلة ، فلذلك خوطب الرّسولصلىاللهعليهوسلم ببيان المحرّمات في شريعة الإسلام بعد أن خوطب ببيان ما ليس بمحرّم ممّا حرّمه المشركون في قوله : (قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ) [الأنعام : ١٤٤] الآيات.
وافتتح الكلام المأمور بأن يقوله بقوله : (لا أَجِدُ) إدماجا للردّ على المشركين في خلال بيان ما حرّم على المسلمين ، وهذا الردّ جار على طريقة كناية الإيماء بأن لم ينف تحريم ما ادّعوا تحريمه صريحا ، ولكنّه يقول لا أجده فيما أوحي إليّ ويستفاد من ذلك أنّه ليس تحريمه من الله في شرعه ، لأنّه لا طريق إلى تحريم شيء ممّا يتناوله النّاس إلّا بإعلام من الله تعالى ، لأنّ الله هو الّذي يحلّ ما شاء ويحرّم ما شاء على وفق علمه وحكمته ، وذلك الإعلام لا يكون إلّا بطريق الوحي أو ما يستنبط منه ، فإذا كان حكم غير موجود في الوحي ولا في فروعه فهو حكم غير حقّ ، فاستفيد بطلان تحريم ما زعموه بطريقة الإيماء ، وهي طريقة استدلالية لأنّ فيها نفي الشّيء بنفي ملزومه.
و (أَجِدُ) بمعنى : أظفر ، وهو الّذي مصدره الوجد والوجدان ، وهو هنا مجاز في حصول الشّيء وبلوغه ، يقال : وجدت فلانا ناصرا ، أي حصلت عليه ، فشبّه التّحصيل للشّيء بالظفر والفاء المطلوب ، وهو متعدّ إلى مفعول واحد.
والمراد ، ب (ما أُوحِيَ) ما أعلمه الله رسوله صلىاللهعليهوسلم بوحي غير القرآن لأنّ القرآن النّازل