(أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١١٤))
استئناف بخطاب من الله تعالى إلى رسوله صلىاللهعليهوسلم بتقدير الأمر بالقول بقرينة السّياق كما في قوله تعالى : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) [البقرة : ٢٨٥] أي يقولون. وقوله المتقدّم آنفا (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) [الأنعام : ١٠٤] بعد أن أخبره عن تصاريف عناد المشركين ، وتكذيبهم. وتعنّتهم في طلب الآيات الخوارق ، إذ جعلوها حكما بينهم وبين الرّسول عليه الصلاة والسلام في صدق دعوته ، وبعد أن فضحهم الله بعداوتهم لرسوله عليه الصلاة والسلام ، وافترائهم عليه ، وأمر رسوله صلىاللهعليهوسلم بالإعراض عنهم وتركهم وما يفترون ، وأعلمه بأنّه ما كلّفه أن يكون وكيلا لإيمانهم ، وبأنّهم سيرجعون إلى ربّهم فينبّئهم بما كانوا يعملون ، بعد ذلك كلّه لقّن الله رسوله صلىاللهعليهوسلم أن يخاطبهم خطابا كالجواب عن أقوالهم وتورّكاتهم ، فيفرّع عليها أنّه لا يطلب حاكما بينه وبينهم غير الله تعالى ، الّذي إليه مرجعهم ، وأنهم إن طمعوا في غير ذلك منه فقد طمعوا منكرا ، فتقدير القول متعيّن لأنّ الكلام لا يناسب إلّا أن يكون من قول النبي عليه الصلاة والسلام.
والفاء لتفريع الجواب عن مجموع أقوالهم ومقترحاتهم ، فهو من عطف التّلقين بالفاء : كما جاء بالواو في قوله تعالى : (قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) [البقرة : ١٢٤] ، ومنه بالفاء قوله في سورة الزمر [٦٤] : (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) فكأنّ المشركين دعوا النّبي صلىاللهعليهوسلم إلى التّحاكم في شأن نبوءته بحكم ما اقترحوا عليه من الآيات ، فأجابهم بأنّه لا يضع دين الله للتّحاكم ، ولذلك وقع الإنكار أن يحكّم غير الله تعالى ، مع أنّ حكم الله ظاهر بإنزال الكتاب مفصّلا بالحقّ ، وبشهادة أهل الكتاب في نفوسهم ، ومن موجبات التّقديم كون المقدّم يتضمّن جوابا لردّ طلب طلبه المخاطب ، كما أشار إليه صاحب «الكشاف» في قوله تعالى : (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا) في هذه السورة [الأنعام : ١٦٤]. والهمزة للاستفهام الإنكاري : أي إن ظننتم ذلك فقد ظننتم منكرا.
وتقديم (أَفَغَيْرَ اللهِ) على (أَبْتَغِي) لأنّ المفعول هو محلّ الإنكار. فهو الحقيق بموالاة همزة الاستفهام الإنكاري ، كما تقدّم في قوله تعالى : (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا) في هذه السورة [١٤].
والحكم : الحاكم المتخصّص بالحكم الّذي لا ينقض حكمه ، فهو أخصّ من