والظّلم هنا يشمل ظلم نفوسهم ، إذ زجّوا بها إلى العذاب في الآخرة وخسران الدّنيا ، وظلم الرّسول صلىاللهعليهوسلم إذ كذّبوه ، وما هو بأهل التّكذيب ، وظلم الله إذ كذّبوا بآياته وأنكروا نعمته ، وظلموا النّاس بصدّهم عن الإسلام بالقول والفعل.
وقد جيء باسم الموصول لتدلّ الصّلة على تعليل الحكم ووجه بناء الخبر ، لأنّ من ثبت له مضمون تلك الصّلة كان حقيقا بأنّه لا أظلم منه.
ومعنى (صَدَفَ) أعرض هو ، ويطلق بمعنى صرف غيره كما في «القاموس». وأصله التّعدية إلى مفعول بنفسه وإلى الثّاني ب (عَنْ) يقال : صدفت فلانا عن كذا ، كما يقال : صرفته ، وقد شاع تنزيله منزلة اللّازم حتّى غلب عدم ظهور المفعول به ، يقال : صدف عن كذا بمعنى أعرض وقد تقدّم عند قوله تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ) في هذه السّورة [٤٦] ، وقدّره في «الكشاف» هنا متعدّيا لأنّه أنسب بكونهم أظلم النّاس تكثيرا في وجوه اعتدائهم ، ولم أر ذلك لغيره نظرا لقوله تعالى : (سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ) إذ يناسبه معنى المتعدّي لأنّ الجزاء على أعراضهم وعلى صدّهم النّاس عن الآيات ، فإنّ تكذيبهم بالآيات يتضمّن إعراضهم عنها فناسب أن يكون صدفهم هو صرفهم النّاس.
و (سُوءَ الْعَذابِ) من إضافة الصّفة إلى الموصوف ، وسوؤه أشدّه وأقواه ، وقد بيّن ذلك قوله تعالى : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ) [النحل : ٨٨]. فقوله : (عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ) هو مضاعفة العذاب ، أي شدّته. ويحتمل أنّه أريد به عذاب الدّنيا بالقتل والذلّ ، وعذاب الآخرة ، وإنّما كان ذلك جزاءهم لأنّهم لم يكذّبوا تكذيبا عن دعوة مجرّدة ، بل كذّبوا بعد أن جاءتهم الآيات البيّنات.
و (ما) مصدريّة : أي بصدفهم وإعراضهم عن الآيات إعراضا مستمرا لم يدعوا راغبه فكان هنا مفيدة للاستمرار مثل : (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) [النساء : ٩٦].
(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٥٨))
استئناف بياني نشأ في قوله : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ) [الأنعام : ١٥٧] الآية ، وهو يحتمل الوعيد ويحتمل التهكّم ، كما سيأتي. فإن كان هذا وعيدا وتهديدا فهو ناشئ