مثل هذا الخطاب ، أي فلا تكوننّ ـ أيّها السّامع ـ من الممترين ، أي الشّاكين في كون القرآن من عند الله ، فيكون التّفريع على قوله : (مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ) أي فهذا أمر قد اتّضح. فلا تكن من الممترين فيه. ويحتمل أن يكون المخاطب الرّسول عليه الصلاة والسلام ، والمقصود من الكلام المشركون الممترون ، على طريقة التّعريض ، كما يقال : (إياك أعني واسمعي يا جاره). ومنه قوله تعالى : (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر : ٦٥]. وهذا الوجه هو أحسن الوجوه ، والتفريع فيه كما في الوجه الثّاني.
وعلى كلّ الوجوه كان حذف متعلّق الامتراء لظهوره من المقام تعويلا على القرينة ، وإذ قد كانت هذه الوجوه الثّلاثة غير متعارضة ، صحّ أن يكون جميعها مقصودا من الآية. لتذهب أفهام السامعين إلى ما تتوصّل إليه منها. وهذا ـ فيما أرى ـ من مقاصد إيجاز القرآن وهو معنى الكلام الجامع ، ويجيء مثله في آيات كثيرة ، وهو من خصائص القرآن.
(وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١١٥))
هذه الجملة معطوفة على جملة : (أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً) [الأنعام : ١١٤] لأنّ تلك الجملة مقول قول مقدّر ، إذ التّقدير : قل أفغير الله أبتغي حكما باعتبار ما في تلك الجملة من قوله : (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً) [الأنعام : ١١٤] فلمّا وصف الكتاب بأنّه منزّل من الله ، ووصف بوضوح الدّلالة بقوله : (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً) [الأنعام : ١١٤] ثمّ بشهادة علماء أهل الكتاب بأنّه من عند الله بقوله : (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ) [الأنعام : ١١٤] ، أعلم رسوله عليه الصلاة والسلام والمؤمنين بأنّ هذا الكتاب تامّ الدلالة ، ناهض الحجّة ، على كلّ فريق : من مؤمن وكافر ، صادق وعده ووعيده ، عادل أمره ونهيه. ويجوز أن تكون معطوفة على جملة : و (جَعَلْنا لِكُلِ) نبيء (عَدُوًّا) وما بينهما اعتراض ، كما سنبيّنه.
والمراد بالتمام معنى مجازي : إمّا بمعنى بلوغ الشّيء إلى أحسن ما يبلغه ممّا يراد منه ، فإنّ التّمام حقيقته كون الشّيء وافرا أجزاءه ، والنقصان كونه فاقدا بعض أجزائه ، فيستعار لوفرة الصّفات التي تراد من نوعه ؛ وإمّا بمعنى التّحقّق فقد يطلق التّمام على حصول المنتظر وتحقّقه ، يقال : تم ما أخبر به فلان ، ويقال : أتم وعده ، أي حقّقه ، ومنه