لا يُظْلَمُونَ (١٦٠))
من عادة القرآن أنّه إذا أنذر أعقب الإنذار ببشارة لمن لا يحقّ عليه ذلك الإنذار ، وإذا بشّر أعقب البشارة بنذارة لمن يتّصف بضدّ ما بشر عليه ، وقد جرى على ذلك هاهنا : فإنّه لمّا أنذر المؤمنين وحذرهم من التريّث في اكتساب الخير ، قبل أن يأتي بعض آيات الله القاهرة ، بقوله : (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) [الأنعام : ١٥٨] فحدّ لهم بذلك حدّا هو من مظهر عدله ، أعقب ذلك ببشرى من مظاهر فضله وعدله. وهي الجزاء على الحسنة بعشر أمثالها والجزاء على السيّئة بمثلها ، فقوله: (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) إلى آخره استئناف ابتدائي جرى على عرف القرآن في الانتقال بين الأغراض.
فالكلام تذييل جامع لأحوال الفريقين اللذين اقتضاهما قوله : (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) [الأنعام : ١٥٨]. وهذا بيان لبعض الإجمال الذي في قوله : (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها) الآية ، كما تقدّم آنفا.
و (جاءَ بِالْحَسَنَةِ) معناه عمل الحسنة : شبه عمله الحسنة بحال المكتسب ، إذ يخرج يطلب رزقا من وجوهه أو احتطاب أو صيد فيجيء أهله بشيء. وهذا كما استعير له اسم التّجارة في قوله تعالى : (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) [البقرة : ١٦].
فالباء للمصاحبة ، والكلام تمثيل ، ويجوز حمل المجيء على حقيقته ، أي مجيء إلى الحساب على أن يكون المراد بالحسنة أن يجيء بكتابتها في صحيفة أعماله.
وأمثال الحسنة ثواب أمثالها ، فالكلام على حذف مضاف بقرينة قوله : (فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) ، أو معناه تحسب له عشر حسنات مثل التي جاء بها كما في الحديث : «كتبها الله عنده عشر حسنات» ويعرف من ذلك أنّ الثّواب على نحو ذلك الحساب كما دلّ عليه قوله : (فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها).
والأمثال : جمع مثل وهو المماثل المساوي ، وجيء له باسم عدد المؤنّث وهو عشر اعتبارا بأنّ الأمثال صفة لموصوف محذوف دلّ عليه الحسنة أي فله عشر حسنات أمثالها ، فروعي في اسم العدد معنى مميّزه دون لفظه وهو أمثال. والجزاء على الحسنة بعشرة أضعاف فضل من الله ، وهو جزاء غالب الحسنات ، وقد زاد الله في بعض الحسنات أن ضاعفها سبعمائة ضعف كما في قوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ