وفيه إيذان بانتهاء السّورة لأنّ الواعظ والمناظر إذا أشبع الكلام في غرضه ، ثمّ أخذ يبين ما رضيه لنفسه وما قرّ عليه قراره ، علم السّامع أنّه قد أخذ يطوي سجلّ المحاجّة ، ولذلك غيّر الأسلوب. فأمر الرّسول صلىاللهعليهوسلم بأن يقول أشياء يعلن بها أصول دينه ، وتكرّر الأمر بالقول ثلاث مرّات تنويها بالمقول.
وقوله : (إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي) متصل بقوله : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ) [الأنعام : ١٥٣] الذي بيّنه بقوله : (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ) [الأنعام : ٩٢] فزاده بيانا بقوله هذا : (قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ، ليبيّن أنّ هذا الدّين إنّما جاء به الرّسول صلىاللهعليهوسلم بهدي من الله ، وأنّه جعله دينا قيّما على قواعد ملّة إبراهيم عليهالسلام ، إلّا أنّه زائد عليه بما تضمّنه من نعمة الله عليه إذ هداه إلى ذلك الصّراط الذي هو سبيل النّجاة. وافتتح الخبر بحرف التّأكيد لأنّ الخطاب للمشركين المكذّبين.
وتعريف المسند إليه بالإضافة للاعتزاز بمربوبية الرّسول صلىاللهعليهوسلم لله تعالى ، وتعريضا بالمشركين الذين أضلّهم أربابهم ، ولو وحّدوا الربّ الحقيق بالعبادة لهداهم.
وقوله : (هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) تمثيليّة : شبّهت هيئة الإرشاد إلى الحقّ المبلّغ إلى النّجاة بهيئة من يدلّ السّائر على الطّريق المبلّغة للمقصود.
والمناسبة بين الهداية وبين الصّراط تامّة ، لأنّ حقيقة الهداية التّعريف بالطّريق ، يقال : هو هاد خرّيت ، وحقيقة الصّراط الطّريق الواسعة. وقد صحّ أن تستعار الهداية للإرشاد والتّعليم ، والصّراط للدين القويم ، فكان تشبيها مركّبا قابلا للتفكيك وهو أكمل أحوال التّمثيليّة.
ووصف الصّراط بالمستقيم ، أي الذي لا خطأ فيه ولا فساد ، وقد تقدّم عند قوله تعالى : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ) [الأنعام : ١٥٣] ، والمقصود إتمام هيئة التّشبيه بأنّه دين لا يتطرّق متّبعه شكّ في نفعه كما لا يتردّد سالك الطّريق الواسعة التي لا انعطاف فيها ولا يتحيّر في أمره.
وفي قوله : (دِيناً) تجريد للاستعارة مؤذن بالمشبّه ، وانتصب على الحال من : (صِراطٍ) لأنّه نكرة موصوفة.
والدّين تقدّم عند قوله تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) [آل عمران : ١٩] وهو السّيرة التي يتّبعها النّاس.